كتاب "حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات فى القرن العشرين" للكاتب صموئيل هاينز، نجد فيه مجموعة من الحكايات للجنود الذين وجدو نفسهم فى "أرض المعركة" وعليهم مواجهة العدو والدفاع عن وطنهم، ويقدم هذه الحكايات بعيدا عن القصص الرسمية للدول والمؤسسات.
ومما ورد فى الكتاب حكاية بعنوان " الرجل الذى كان هناك" عن شخص يدعى "ديفيد جونز David Jones ويقول عنه "ابتداءً: رسام وكاتب أنجلو ويلزى خدم على الجبهة الغربية خلال الحرب العالمية الأولى وجُرح فى هجوم السوم Somme، وهو الذى كتب فيما بعد حكاية حرب شاعرية غريبة تحت عنوان "بين فاصلتين" موضوع كتاب جونز هو حربه الخاصة، إلا أنه لا يختمه فى الجبهة الغربية؛ السطور الأخيرة مأخوذة من قصة عن معركة من القرون الوسطى هى رونسفو من "أغنية رولان Chanson de Roland:هذا ما تقوله الحكاية وما يقوله الرجل الذى كان فى أرض المعركة.. مَن وضع الكتاب.. من لا يعرف هذا لم يفهم شيئًا.
يقدم جونز هنا دعوى جندى بامتلاك سلطة مستمدة مما كتب. الحكاية geste تقول هذا، والرجل الذى كان هناك ووضع الكتاب يقوله أيضًا. إنها حكاية حقيقية لأنه كان على أرض المعركة؛ فإذا لم تكن موجودًا هناك فإنك لن تفهم أى شىء.
يجب أن نبدأ تأملنا فى سرديات الحرب بتأكيد السلطة التى تمتلكها شهادة الرجال العاديين، هؤلاء الرجال الذين كانوا هناك يتقدمون إلينا بدعاوى مطلقة بصدد الحرب تؤكد سلطتهم، كما فعل جونز، وفحوى قولهم إن الحرب لا يمكن أن تُفهم إذا ما كان مصدرها ثانويًا لأنها غير متاحة للتشبيه والمنطق، "كيف يُصدر حكمًا من لم ير بأم عينه؟" يسأل جندى وكاتب فرنسى عن الحرب العالمية الأولى، ويتفق معه آخر فى عبارة تبدو وكأنها تردد صدى شاعر "رولان": "الرجل الذى لم يفهم بلحمه ودمه لا يستطيع أن يتكلم عنها." ويقول رجل إنجليزى شارك فى الحرب الثانية: "يجب عليك أن ترى الأشياء بأم عينك قبل أن تصدّقها بأى قدر من الحميمية". وألمانى: "قد يتعاطف أولئك الذين لم يعيشوا التجربة وهم يقرأون كما يتعاطف شخص مع بطل رواية أو مسرحية، لكنهم لن يفهموا بالتأكيد، كما أن المرء لا يستطيع أن يفهم ما يتعذر تفسيره." وهذا ما أشعر به أيضًا. أسمع رجلًا على مائدة عشاء يقول بثقة عن حصار سراييفو: "بإمكاننا الاستحواذ على هذه المدافع بقليل من النابالم". وأفكر: أنت لم تر كيف يسقط النابالم، كيف يتدفق وينتشر مثل موجة لهب ويحرق كل شىء. لم تكن هناك. إنها استجابة طبيعية، وقد اعتمدتها فى هذا الكتاب وأنا أختار النظر فى سرديات الحرب التى هى إفادات شهود عيان صادرة عمن شاركوا فيها دون سواهم.
من السهل إدراك السبب الذى يدعو الناس إلى تذكر حروبهم. تعد الحرب بالنسبة لأغلب المحاربين الصلة الوحيدة التى تربطهم بعالم الأعمال الكبيرة. غيرهم من الرجال يمارسون الحُكم، يوّقعون المواثيق، يخترعون المكائن، يشفون العلل، يغيّرون الحياة. ولكن بالنسبة للرجال العاديين الذين يخوضون معاركنا لا يبقى فى أغلب الظن إلا ذلك الزمن الذى تداخلت فيه حياتهم مع التاريخ، فكانت فرصتهم الوحيدة ليكونوا فاعلين فى أحداث عظيمة. لا يعنى هذا أنهم قادرون على تغيير هذه الأحداث ليس بوسع جندى واحد أن يؤثر فى حرب أو حتى فى معركة ولكنه يعنى ببساطة أن يكونوا هناك، فى التاريخ.
وهكذا يحتاج الرجال إلى القول «كنتُ هناك»، مثل القول المأثور «كيلروى Kilroy كان هنا.» يُظن أن تشرتشل قد قال بعد هزيمة القوات الألمانية الأفريقية: إذا ما سئل الرجال الذين كانوا هناك فى المُقبل من الأعوام عما فعلوه فى الحرب، لن يحتاجوا إلى أكثر من الإجابة «تقدمت مع الجيش الثامن.» لدى كل من شارك فى تلك الحرب ما يكافئ هذه الملاحظة؛ سيقول لك إننى كنت على ساحل أوماها Omaha أو فى أنزيو Anzio، أو فى بورما، أو فى كودال كنال Guadal Canal؛ إن أتينا على ذكر الأسماء البارزة لمسارح العمليات الحربية والمعارك الكبرى. وسيكون فى نبرة صوته نوع من الرضا فى أنه كان مشاركًا ذات يوم فى فعل يعنى شيئًا بالنسبة للعالم. كتب ضابط بريطانى شاب كان ضمن الموجة الأولى فى اليوم الأول من معركة السوم فى ما بعد: «الأول من تموز 1916 هو أكثر الأيام أهمية فى حياتي.» ويمكنك أن ترى ما كان يعنيه. ما من شيء فى حياته من قبل أو من بعد يمكن أن يكون بهذه السعة أو يمثل هذا الخطر المهلك. كان ذلك أسوأ أيام الجيش البريطاني، وأن تكون هناك، شاهدًا على تلك الكارثة العظيمة، يعدّ دون شك شيئًا مثيرًا ومهمًا.
ولكن بالرغم من أن الجندى القديم يتذكر الأحداث الكبيرة التى عاشها بفخر فإن عظمتها ليست موضوعه الجوهري. ليس مهتمًا بسعة المعارك التى كان جزءًا منها، أو بأسبابها ونتائجها، أو حتى بمَن أحرز النصر فيها. موضوعه كما يخبرنا فيليب كابوتو Philip Caputo فى مقدمة كتابه «إشاعة حرب» A Rumor of War الذى يحتوى مذكراته عن حرب فيتنام هو:
"لا يدعى هذا الكتاب أنه تاريخ. لا علاقة له بالسياسة، القوة، الستراتيجية، التأثير، المصالح الوطنية، أو السياسة الخارجية… إنه ببساطة قصة عن الحرب، عن الأشياء التى يفعلها الرجال فى الحرب والأشياء التى تفعلها الحرب فيهم."
القصتان اللتان ترويهما سرديات الحرب موجودتان فى الجملة الأخيرة: "الأشياء التى يفعلها الرجال فى الحرب"، وهو أمر جوهرى بجلاء فالحرب أفعال، لكن الأشياء التى تفعلها الحرب فيهم مهمة أيضًا، أما الأشياء التى يفعلونها هم أنفسهم فهى من نوعين: هنالك المعاناة التى تفرضها الحرب الجراح، المخاوف، المشاق، الخسائر وهى من طبيعة الحرب ولابد من قبولها. لا يعنى هذا أن الجنود مجرد ضحايا هم دائمًا وإلى حد ما فاعلون فى حياتهم لكن الكثير من تجربة الجنديّة تحمّلٌ سلبى: الوقوف دون حركة، البقاء على قيد الحياة. والحرب تفعل بالرجال شيئًا آخر: لا يشارك رجلٌ فى حرب دون أن يتغير بفعلها تغيّرًا أساسيًا. وبالرغم من أن هذه العملية لن تنكشف بوضوح فى كل سرد لا يتوفر كل الرجال على وعى ذاتى أو ميل إلى التأمل يكفيان لذلك فإنها تبقى موجودة. هذا التغير التغير الداخلى هو الدافع الآخر لقصص الحرب: ليس ما حدث حسب، بل ما حدث لى على وجه التحديد.