بدأت الدعوة الإسلامية تنتشر وصار المسلمون معرفين، وكان رجال قريش لهم بالمرصاد، خاصة الضعفاء، الذين لا يحميهم أحد، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى تعذيب المسلمين؟
يقول كتاب "البداية والنهاية " لـ الحافظ ابن كثير، تحت عنوان " فصل تعذيب قريش للمسلمين لاتباعهم النبى عليه الصلاة والسلام":
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله ﷺ من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.
فكان بلال، مولى أبى بكر لبعض بنى جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية ابن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، يطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد ﷺ، وتعبد اللات والعزى.
فيقول: -وهو فى ذلك -أحدٌ أحد.
قال ابن إسحاق: فحدثنى هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا.
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة فى فترة الوحى، وإسلام من أسلم إنما كان عد نزول "يا أيها المدثر" فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب وفيه نظر.
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبى بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود، فأعتقه وأراحه من العذاب، وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس التى أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية، وابنتها اشتراها من بنى عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهى تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.
فقال أبو بكر: حل يا أم فلان.
فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال: فبكم هما؟
قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟
قال: أو ذلك إن شئتما.
واشترى جارية بنى مؤمل - حى من بنى عدى - كان عمر يضربها على الإسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثنى محمد بن عبد الله بن أبى عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله.
قال: قال أبو قحافة لابنه أبى بكر: يا بنى إنى أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟
قال: فقال أبو بكر: يا أبة إنى إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } إلى آخر السورة.
وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود.
قال: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله ﷺ فمنعه الله بعمه أبى طالب، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم فى الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه فى الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد.
ورواه الثورى عن منصور، عن مجاهد مرسلا.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار ابن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله ﷺ فيقول - فيما بلغنى -: "صبرا آل ياسر موعدكم الجنة".
وقد روى البيهقى عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السرى بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبى عبيد الله، عن أبى الزبير، عن جابر: أن رسول الله ﷺ مرَّ بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: "أبشروا آل عمار، وآل ياسر فإن موعدكم الجنة".
فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد.
قال: أول شهيد كان فى الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة فى قلبها.
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم فى رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزَّاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفلين رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به، لعنه الله وقبحه.
قال ابن إسحاق: وحدثنى حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟
قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذى نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهآن من دون الله.
فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.
قلت: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] الآية.
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الأرت، قال: كنت رجلا قينا وكان لى على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.
قال: فإنى إذا مت ثم بعثت جئتنى ولى ثم مال وولد فأعطيك؟
فأنزل الله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا} إلى قوله: { َيَأْتِينَا فَرْدا} [مريم: 77-80] .
أخرجاه فى (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الأعمش به.
وفى لفظ البخاري: كنت قينا بمكة، فعملت للعاص ابن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث.
وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا بيان وإسماعيل.
قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبى ﷺ وهو متوسد ببردة وهو فى ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمر الوجه.
فقال: "قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل"، زاد بيان "والذئب على غنمه".
وفى رواية: "ولكنكم تستعجلون" انفرد به البخارى دون مسلم.