نتوقف مع كتاب "الدولة فى التنظير العربى والإسلامي: التأصيل والتحديات" الصادر عن مركز دراسات المسبار، والذى يناقش حضور الدولة فى النقاشات الفقهية والأدب السلطانى والفلسفة، آخذاً بالاعتبار السياقات التاريخية المعاصرة، بدءاً بالخلاصات التى أرساها بعض أقطاب الإسلام السياسى (السنى والشيعي) مروراً بالدولة فى الفكر الليبرالى العربي، وصولاً إلى كتابات المؤرخ المغربى عبدالله العروى الذى يُعد من أبرز المنظرين لمفهوم الدولة فى المجال العربى المعاصر.
اهتم مجال التراث الإسلامى بمفاهيم الحكم والخلافة والإمامة، "ولم يعرف الفكر الإسلامى التقليدى -كما تبين إحدى الدراسات- المجتمع كمفهوم سياسى، ولم يعرف فكرة الدولة فى ذاتها، أى الدولة ككائن اجتماعى مجرد وغير موصوف، ولم يعرف فكرة الحكومة المتمايزة عن الدولة وعن الحاكم"، ويمكن تحديد خريطة التفكير السياسى فى الدولة طوال عصر التدوين الإسلامى فى ثلاثة مستويات: الفقه، الأدب السلطانى، والفلسفة.
وعلى مستوى السياسة الشرعية اعتبر الفقهاء أن الدولة لا تخرج عن النصوص الشرعية من خلال مفاهيم "البيعة" والخلافة، ووضعت لذلك الهدف الشروط والأحكام المتوجبة. لم يفترق الأدب السلطانى فى مسألة السلطة عن الطرح الفقهي، ويُعد أبو الحسن الماوردى (974-1058)، الفقيه الحافظ، وأكبر فقهاء الشافعية، فى طليعة من أسسوا -نظرياً- لمؤسسة المُلك، أى تبرير وتكريس السلطة الفردية المطلقة للملك، وتثبيت الطاعة المطلقة على الرعية. تأثرت الفلسفة السياسية العربية الإسلامية بالثقافة السياسية اليونانية، فقدم أبو نصر محمد الفارابى (874-950) -المتأثر بأنموذج أفلاطون للمدينة الفاضلة- رؤيته الفلسفية حول «الرئيس الفيلسوف»؛ وكان لأبى الوليد بن رشد (1126-1198) نظريته التى تقابل بين الفلسفة والفضيلة أو الشرع.
تمثل "ولاية الفقيه" ذروة التنظير الشيعي، ونُسبت للفقيه أحمد النَّراقى (ت 1829) فى العهد القاجارى بدايات القول فيها، وتطورت لاحقاً وتلقفها الخمينى (1902-1989)، جاعلاً منها قالباً دينياً/ سياسياً للحكم منذ نجاح ثورته عام 1979، معتبراً أنها جزء من أصول الدين لا من فروعه. وخلافاً لـــ«ولاية الفقيه المطلقة» التى نادى بها مؤسس «الجمهورية الإسلامية» فى إيران رفض الإمام محمد مهدى شمس الدين "ولاية الفقيه" السياسية، طارحاً عنها كبديل "ولاية الأمة على نفسها": "إن شرعية أى سلطة مستمدة من الله، فوضها للمعصومين، ثم انتقلت للأمة بعد غياب آخرهم".
شغلت الطروحات السياسية حول "الدولة –الأمة" الفكر العربى المعاصر. يتناول الكتاب هذه المسألة عبر دراسة سبعة مفكرين هم: عبدالله العروي، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وبرهان غليون، ومحمد جابر الأنصاري، وعلى أومليل، ووجيه كوثراني. ولقد وجدت هذه الطروحات نفسها مضطرة للتعامل مع ثلاث ثنائيات بارزة هيمنت على الخطاب الأيديولوجى العربي: ثنائية الدولة القُطرية والدولة القومية، ثنائية الدولة التحديثية والدولة التقليدية، وثنائية الدولة التسلطية والدولة المدنية. أَولى الكتاب أهمية ملحوظة للمخاطر التى تهدد الدولة فى العالم العربى فى مسيرة تكونها وتطورها، فدرس العوامل التى تهدد مؤسساتها وحضورها فى بعض المناطق المتوترة. فهل تسعفنا "نظرية ابن خلدون فى نشوء الدولة وازدهارها وأفولها" على فهم واقعنا الراهن؟
أسس حسن البنّا لنظريات فى الحكم والدولة تحت شعار شمولى قوامه "الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف". وقد رفع المسألة السياسية إلى مصاف المسائل العقدية، فنقلها من مجال الفقه العام أو الفقه السياسى إلى الكلام والأصول. يقول البنا: "الإسلام الذى يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد.. والحكم معدود فى كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر». وقبل ثلاث سنوات من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1928) أصدر الإمام الأزهرى على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» نافياً فيه وجود الخلافة فى الإسلام، فأثار حوله ردود فعل وضجة كبيرة، وما زال الكتاب إلى الآن يثير الأقلام والتعليقات. ويأتى استحضار النتائج التى وصل إليها عبدالرازق راهناً فى ظل السجال الفكرى المتصاعد حول التفريق بين الدولة والدين، وحول الدعاوى التى يرفعها "إسلاميون" فى إعادة أمجاد الخلافة.
دخلت الدول الوطنية فى العالم العربى فى إخفاقات كثيرة وأنتج بعض نماذجها أنماطاً من "التسلطية" و"الشمولية"، سعى الكتاب إلى درس عوائق التحول الديمقراطى فى العالم العربي، مبرزاً أهم التنظيرات التى طاولت أزمة بناء الدولة الحديثة، كما قدمتها اتجاهات فكرية مختلفة ومن ضمنها الفكر الليبرالى العربي.
تمر المنطقة العربية بالعديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والإقليمية. وفى ظل مخاطر التفكك التى تتعرض لها المؤسسات الأمنية والسياسية فى بعض دول «الحراك العربي»، يتصاعد الإرهاب الذى ينمو فى الدول المفككة؛ من هنا تأتى الحاجة الملحة إلى رفع خطاب مركزية الدولة وحضورها لحفظ الأوطان والحدود السيادية فى موازاة العمل على بناء الدولة الحديثة.