توجد كتب تستحق القراءة بالفعل من ذلك كتاب "الديكاميرون" وهى ملحمة إيطالية وضعها جوفانى بوكاتشو (1313 - 1375) وتباهت إيطاليا بها معتبرة إياها صنو "ألف ليلة وليلة" وهى تسمية محرفة لعبارة "عشرة أيام" باليونانية، ومدلول التسمية مستمد من ارتباط بوكاتشو وعصره باللغة اليونانية، وبالفعل ما إن نفتح صفحات "الديكاميرون" حتى ندرك أننا بحضور لحظة تاريخية مأساوية فليس فلورنسا وحدها، ولا إيطاليا، وإنما أوروبا بأسرها تحولت إلى مسرح يجتاحه وباء رهيب، قضى على ربع سكان القارة ولم تنج من الوباء أى أمة أوروبية.
وقد تأثر بوكاتشو بـ "ألف ليلة وليلة"، حيث يلتقى مع شهرزاد فى اعتبار الحكى ذاته وسيلة من وسائل الخلاص والنجاة، وكلما زاد الإتقان فى الحكاية أصبح أمل النجاة أقرب إلى التحقّق، لأن النجاح فى الانعزال عشرة أيام أو ربما أسبوعين، عن مجتمع الوباء، ينقذك مباشرة من الإصابة بالمرض الفتاك. وبالمثل، فإن الليالى الألف التى احتاجتها شهرزاد لتحكى حكاياتها لشهريار، كانت كافية لتنجو وبنات جنسها من الموت على يد الملك.
فى الديكاميرون يروى بوكاشيو قصصه، وتتجسد موهبته فى حكاياته المفعمة بالتشويق والسخرية اللاذعة ذات المغزى والمرح، حسب وصف المترجم، وأحياناً يغلب عليها طابع البهجة أو يتلبسها الحزن، حسب طبيعة الحكاية التى تروى على لسان الرواة العشرة الذين انتدبهم لسرد قصصه، التى سعت إلى معالجة العلاقات المتباينة فى مجتمعه، وتصوير حياة بلده فى القرن الرابع عشر.
وتناولت موضوعات مختلفة على مدى الأيام العشرة، وتنوعت بين محاور عدة لمهمة النقد والتعرية والوعظ والحث على الفضيلة، وكشف نزاعات الإنسان ورغباته الدفينة، مثلما تميزت قصصه فى كشف غوايات الرجال ومباذلهم، ومظاهر السذاجة والفجور ولحظات الحب، وتصوير حالات النفاق والخداع والكذب، وتجلت براعته فى رصد دقيق للأحداث والمواقف المتناقضة، وقد استطاع بموهبته أن يفوق معاصريه أو السابقين عليه من الكتاب بما اكتنزت به قصصه من كثافة فى التركيب والوصف والحوار، التى تعد الإرهاصات الأولى فى بناء القصة الحديثة.