تهتم كتب المستشرقين عادة بزوايا مهمة، لا نهتم بها فى عالمنا العربى كثيرا، وتطرح هذه الكتب أسئلة جوهرية، ومن ذلك كتاب "الإسلام فى التاريخ.. الأفكار والناس والأحداث فى الشرق الأوسط" لـ برنارد لويس، والذى صدرت له ترجمة قام بها مدحت طه مراجعة أحمد كمال أبو المجد، عن دار نشر آفاق، والكتاب يبين صعوبة تناول التاريخ الإسلامى بصفة عامة فى المداخل الغربية، نظرًا للنقص الواضح فى الوثائق، ولضعف خبرة من كتبوا فى الموضوع من الرحالة الغربيين باختلاف أهدافهم، وصفاتهم المهنية، وأيضًا انتقال دول الشرق من الخضوع للاحتلال العثمانى ثم (الإنجليزى - الفرنسى - الإيطالى) ثم الاستقلال فى منتصف القرن الماضى ونشأة القومية العربية، ومن هذه النواحى التى نعانى منها ما يتعلق بالتاريخ الاقتصادى.
يقول الكتاب:
يعانى المؤرخ الاقتصادى، ربما أكثر من أقرانه فى حقول أخرى من البحث التاريخى، من نقص واضح فى الدليل الوثائقى، وميل شديد إلى الأرشيف، مفضلًا إياه على سجلات التاريخ والأدبيات الأخرى.
ويعد النقص فى هذا الدليل الوثائقى، أحد الصعوبات التقليدية التى يواجهها المؤرخ الإسلامى، دون التطرق للمشاكل النظرية والفلسفية المعقدة للمراحل التاريخية المختلفة، ولأسباب عملية يمكننا تقسيم تاريخ الشرق الأوسط منذ صعود الإسلام إلى ثلاثة مراحل –والتى تتحدد بالمصادر الوثائقية المتاحة ونوعيتها، وهذه المراحل توصف المصطلحات المحايدة" إسلام مبكر، ووسيط، ومتأخر".
وبالنسبة للمرحلة المتأخرة، والتى تبدأ فى القرن التاسع عشر، وتستمر حتى يومنا هذا، نجد فى معظم المناطق أن معرفتنا غنية، تثريها النشاطات البيروقراطية المختلفة للدولة، والوكالات الأخرى.
وعليه، يمكن للبحث فى التاريخ الاقتصادى الحديث للشرق الأوسط، أن يتأسس على مادة شبيهة فى الشكل، وإن كانت أقل شبهًا فى المحتوى، لتلك التى تظهر فى أجزاء أخرى من العالم الحديث، ويمكن متابعتها بتكنيك مماثل.
وعلى الباحث أن يقرر أى الأجزاء يتناول، وأى تكنيك يستخدمه، ويمكن أن يطور الباحثون فى بعض بلدان الشرق الأوسط، تقنية معينة خاصة بهم، مثل تلك التى يستخدمها المتخصصون فى مناطق أخرى من العالم، حيث تتاح لهم فقط الخطط المعلنة، والتقارير والإحصاءات الرسمية، وحيث تسبب تلك المعلومات مشكلات محددة، فى كيفية تقديمها، وقبولها.
أما مرحلة الإسلام الوسيط، والتى تقابل ما يطلق عليه المؤرخون الأوروبيون التاريخ الحديث المبكر، وهى أيضًا مرحلة يمكن تتبع الدليل الوثائقى لها فى الأرشيفات، وإن كان دليلًا من نوعية مختلفة.
أهم هذه الوثائق على الإطلاق هى السجلات العثمانية، وهى تمثل بوجودها، والمدى الذى تتطرق إليه، تعريفًا بهذه المرحلة،وإلى جانب مجموعة السجلات الأساسية فى استانبول، توجد مجموعات أخرى فى أنقرة، وفى عدد عن المدن الإقليمية فى تركيا.
وهناك أيضًا مجموعات أرشيفية من الوثائق، ذات أنواع وأحجام مختلفة حفظت فى مصر، وتونس، وبعض بلاد أوروبا وآسيا، والتى كانت خاضعة للاحتلال العثمانى، وقد أفرزت السجلات العثمانية مادة أدبية غزيرة بالفعل، وعنيت فى الكثير منها بالشئون الاقتصادية، بينما فى مناطق أخرى من الشرق الأوسط، نجد الوضع أقل إشباعًا بكثير، من حيث نوع وحجم الوثائق المتاحة، فنحن نجد سجلات عثمانية، عن أقاليم فارس والقوقاز، أما بالنسبة لبقية أراضى فارس، فلم تظهر سجلات حتى الآن للضوء.
أما خارج نطاق الأقاليم التى خضعت للحكم العثمانى فتوجد منطقة واحدة فقط، من المعروف وجود سجلات لها، وهى المنطقة التى يسكنها المسلمون المنتسبون لـ جانكيز خان فى آسيا الوسطى، والتى اندمجت فى الإمبراطورية الروسية بين 1865 و1887.
فى هذه المنطقة، حفظت سجلات الدولة، وبعض السجلات الخاصة، فى الغالب من المرحلة السابقة على الاحتلال الروس لها، وقد حفظها المحتلون، وهى تحتوى على بيانات عن أملاك الإقطاع من الأراضي، والضرائب، وغيرها.
وبالإضافة لتلك السجلات، هناك مجموعتان أخريان من السجلات المهمة، ولكن غير المثيرة للمؤرخ الاقتصادى.
المجموعة الأولى وهى الأصغر، تتكون من سجلات حفظت عن المجتمعات غير المسلمة داخل العالم الإسلامى، وهى نظرًا لميزة تماسكها، وإطارها المنهجى، تتمتع بالتواصل الذى يفتقد فى المجتمع الإسلامى الكبير المتمزق، وكانت قادرة على التراكم، وحفظت على مدى مراحل طويلة من الزمن.
ولعل أفضل هذه السجلات جميعًا، السجلات المحفوظة فى دير الأرمن فى إيميدزين، ودير اليونانيين الأرثوذكس "سانت كاترين" فى سيناء، وهى سجلات درست حديثًا، ونشر البعض منها، وتوجد أيضًا سجلات للأكليروس المسيحى واليهودى، وسجلات طائفية فى مراكز مختلفة، ولكنها حتى الآن لم يستكشف فيها إلا القليل، وتتناول الوثائق المنشورة من بين أشياء أخرى، موضوعات مألوفة، مثل ملكية الأراضي، وجمع الضرائب، والنزاعات بأنواعها المختلفة، والتى عادة تكون حول المال والملكيات الخاصة.
والمجموعة الثانية، تتكون من سجلات الحكومات الأجنبية، والشركات التجارية، والمنظمات الدينية، والكيانات الأخرى التى ارتبطت أو أولت اهتمامًا بالشرق الأوسط، بداية من المقاطعات الإيطالية، ثم فى النمسا، وروسيا، وبلاد أوروبا الغربية، خاصة بريطانيا وفرنسا، وأخيرًا الولايات المتحدة.
وتوجد لدى تلك البلاد مجموعة غنية من الوثائق، معظمها متاح للباحثين. ونجد أولى السجلات العثمانية المحفوظة فى القرن الخامس عشر، واكتملت هذه السجلات تمامًا فى القرن السادس عشر. وبالنسبة للفترات المبكرة لتاريخ الشرق الأوسط، والمناطق التى كانت خارج نفوذ الإمبراطورية العثمانية، لا توجد سجلات على الإطلاق، إلا فى استثناءات قليلة.
هذا لا يعنى عدم وجود وثائق، فقد بقيت أعداد هائلة من الوثائق، ويمكن أن تتوافر إما فى مجموعات عامة أو خاصة، لكنها ليست سجلات، بل هى مجموعة من مخطوطات الوثائق العشوائية التى اكتشفت بالصدفة، دون نظام ما يقننها سوى ذلك الذى فرضه أمناء المكتبات، أو المحررون، أو المؤرخون.
وربما كانت لهذه الوثائق قيمة كبيرة، لكنها لا ترقى إلى وثيقة تصدر عن أرشيف أصيل، حيث تحفظ الوثائق فى صورتها الأصلية، وبنفس نظامها وترتيبها، تمامًا كما خرجت فى شكلها النهائي، لخدمة احتياجات المعهد الذى حققها وأبدعها فى الأساس؛ فالعديد من هذه الوثائق يستمد قيمته، من شمولية، وسعة إلمام، وتواصل زمني، وتماسك، استطاع واضعيها أن يحققوه.
ومثل هذه السجلات فى عهود الإسلام الوسيط، موجودة بوضوح يتجلى فى المصادر الأدبية، ولكن لم يحافظ عليها، فالسجلات تبتدع وتبقى للاستخدام الإداري، وليس لراحة المؤرخين؛ فدول الغرب عاشت فى العصور الوسطى وتطورت حتى صارت تلك الدول الحديثة فى غرب أوروبا، وظلت سجلاتها سارية ومحفوظة، فى الوقت الذى قدرت فيه أهميتها التاريخية، وقد ساعد هذا الاستمرار السياسى على بقاء العديد من المعاهد المحلية، والحفاظ بالتالى على سجلاتها.
وكانت الكنيسة عنصرًا رئيسيًّا فى ثبات واستمرارية والحفاظ على سجلات المكاتب الإكليروسية وحمايتها، وهى مصدر لا يقدر بثمن لتقديم المعلومات للمؤرخ الاقتصادي.
أما دول الشرق الأوسط فى العصور الوسطى، باستثناء الإمبراطورية العثمانية، فقد انهار معظمها، وفشلت سجلاتها فى خدمة أى غرض عملي؛ حيث أصابها الإهمال، وتشتت وضاعت.
ولا يوجد فى الإسلام نظام مثل نظام مؤسسة الكنيسة، ولم يحبذ المجتمع الإسلامى ظهور كيانات نقابية، أو جماعات من النوع الذى ينتج سجلات ويحافظ عليها، وهناك بعض الاستثناءات لهذه المقولة، والتى تتردد مرارًا وتقبل بشكل عام، أنه لا توجد سجلات للتاريخ الإسلامى فى العصر الوسيط.
وأهم هذه الاستثناءات، والتى ذكرت بالفعل، هى سجلات المعاهد الأجنبية، ومعاهد الأقليات، وهى بالطبع أقل عددًا من السجلات الخاصة بالمرحلة العثمانية، ولكنها تظل بما تحويه من وثائق مثيرة للاهتمام.
وتحتوى السجلات الإيطالية والإسبانية، على العديد من الوثائق التى تتصل بالتجارة، وعدد من الوثائق المسجلة بالعربية، والتى أولاها المستشرقون اهتمامًا يفوق قيمتها.
حتى وثائق دير "سانت كاترين"، والتى تعكس اهتمامات الرهبان، وتعاملاتهم مع العالم الخارجي، وفيها بعض الاهتمامات الاقتصادية؛ فهى تشتمل على أحكام من قاضى القضاة المصرى فى النزاعات بين الرهبان وجيرانهم البدو، الذين ادَّعوا أن لهم نصيبًا فى أراضى الرهبان ومحاصيلهم من القمح والشعير والفاكهة، وردوا على دعاوى الرهبان بالإعفاء من الضرائب، والجزية والخدمات.
وهناك استثناء آخر، هو الوثائق المحفوظة فى أرشيفات العثمانيين عن فترة ما قبل الدولة العثمانية، ومعظمها –لسوء الحظ- عبارة عن نسخ عثمانية أو تعديلات من إعداد العثمانيين على الوثائق الأصلية.