منذ 219 عاما غادرت الحملة الفرنسية مصر، وربما ما حدث خلال السنوات القليلة التى سيطر فيها الفرنسيون على القاهرة سيظل أثره ممتدا لسنوات طويلة، وبالطبع لا يمكن القطع بأن الحملة كانت وبالًا على مصر، ولا يمكن الحكم أيضا بأنها كانت خيرا، فلن يتفق الباحثون والمؤرخون أبدا على إجابة واحدة لسؤال: هل كانت خيرا أم شرا؟ سيظل لكل إجابة مبرراتها الصادقة.
لقد جاءت فرنسا إلى مصر بأغراض استعمارية محضة، فلم تكن تريد سوى احتلال الأرض، وأن تقطع الطريق على إنجلترا وأن تنشئ مستعمرة جديدة، ولم يكن فى ذهن نابليون أن ينشر مبادئ ثورته الفرنسية، ولا أن يقضى على المماليك، ولا أن يحرر الشعوب، بكل كان غرضه الرئيسى هو تكوين إمبراطورية فرنسية.
فى أواخر القرن الـ18، كان هناك صراع كبير بين فرنسا وبريطانيا كل منهما تسعى للسيطرة على أكبر قدر من المستعمرات الجديدة، وعندما قامت بريطانيا باحتلال منطقة "كيب" فى جنوب أفريقيا من الهولنديين عكى تقطع طريق رأس الرجاء الصالح على فرنسا، أرسلت فرنسا أسطولا بحريا مكونا من 36 ألف جندى وصل لمنطقة أبو قير فى الإسكندرية بقيادة نابليون بونابرت بهدف احتلال مصر وقطع الطريق شمال القارة الأفريقية أمام بريطانيا لمستعمراتها للهند.
وقد وصف عبد الرحمن الجبرتى حال مصر قبل مجيئ الحملة الفرنسية بأنها كانت فى أسوأ حالتها قبل قدوم الفرنسيين وخلال تواجدهم، قبل الحملة الفرنسية كانت مصر فى تدهور شديد خلال الحكم العثمانى الرسمى والفعلى المملوكى.
ومع ذلك عندما جاءت الحملة الفرنسية ارتكب العديد من الجرائم، يقول كتاب "الصليبية والجهاد.. حرب الألف سنة بين العالم الإسلامى وعالم الشمال" تأليف وليام بوليك، ترجمة وتحقيق عامر شيخونى وعماد يحيى الفرجى، صدرت ترجمته عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
حاوَل نابليون أن يُقَسِّم مُعارضيه ويُفرِّقهم مثلما يَفعَل المستعمرون عادة، فكان يَعمَل مراراً ضدَّ المماليك، بينما يُعلِن تأييدَه للشعب المصرى، قال إن جَشَع المماليك هو سبب تَخريب مصر التى كانت ذات يوم أرضَ "المُدن العظيمة والقنوات العَريضة والتجارة النامية"، استَغَل ضَعفَ المجتمع المصرى بشكل لطيف وماهر باستِغلاله الفِرقَةَ بين المسلمين والأقباط، ومثلَما فَعَلَ مَن سَبقوه، فقد شَجَّعَ نفوذَ وفَخرَ الأقباط واستَخدَمهم فى جَمعِ الضرائب.
كان الاسلوب الثالث الذى اتَّبَعَهُ نابليون هو إرهابُ المصريين بجيشه، ومهما كان القفاز الذى لبسته الإمبريالية الفرنسية ناعماً، فقد كان يُخفى تَحتَه مَخالِبَ حادَّة، ومثلما كان البريطانيون فى الهند والهولنديون فى إندونيسيا والروس فى القوقاز والصينيون فى آسيا الوسطى، فقد كان الاحتلال الفرنسى لمصر ديكتاتورية عسكرية، لكى يَعمَل الاستعمار وتَنجَح الإمبريالية لا يمكن تَحَمُّلُ أية مقاومة حتى لو كانت هَمسَاً.
أُمِرَ القادةُ المصريون بارتداء الألوان الفرنسية، وكان على السكان أن يَضَعوا شريط القبعة الذى يَرمز للثورة الفرنسية، وعلى الفلاحين "أن يَرفَعوا العلَم الفرنسى وكذلك عَلَم صديقنا السلطان العثماني"، والقرى التى تُقاوم أو تَرفض أن تُقَدِّمَ ما يُطلَبُ مِنَ المؤن تُحرَق، وقد أُحرِقَ منها ما يكفى لترويع الباقين.
لم يَخَدِع المصريون بمظاهر حسن النيَّة الفرنسية، وسرعان ما ظَهَرَت أسباب لقتالهم، فقد هاجَمَت فِرَق من الجنود القرى التى شَكُّوا بوجود نشاط مُعاد لفرنسا فيها، وحَكَموا عليها بعقوبات كان أغلبها يَشمَل حَرْقَ التِّبن المَخزون على أَسْقُفِ منازلها فانهارَتْ وتم نَهبُ الطعام الذى جَمَعَهُ القرويون. كان هذا البرنامج مثالاً مبكراً لقَمعِ المقاومة ولم يكن موجَّهاً للمعاقبة فقط بل لمَنعِ التَّموين عمَّن تَبقَّى من المماليك والعثمانيين وقوات البدو أيضاً. وفى إحدى الهجمات دَمَّرَ الجنودُ الفرنسيون بلدةً بَلَغَ تَعدادُ سكانِها حوالى اثنى عشر ألف شخص.
لكن فى الوقت نفسه، جاءت الحملة الفرنسية ومعها العديد من مظاهر التنوير التى استفادت منها الدولة المصرية بعد ذلك على يد محمد على باشا، فقد كانت الحملة لمثابة صدمة حضارية.