يوجد، دائما، ما يجمع الشعوب ويدفعهم لاحترام العقائد، ولو توقفنا عند كتاب "تاريخ الشعوب العربية" للمؤرخ البريطانى من أصل لبنانى "ألبرت حورانى" نجده يستعرض تاريخ العرب منذ ظهور الإسلام، حتَّى أواخر القرن العشرين، ويعرض التيارات الفكريَّة والأدبيَّة والدينيَّة فى مجالات الفلسفة والأدب والطب خلال زمن الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة، ويشرح المفاهيم الاقتصادية فى العالم وطبيعة الوحدة الثقافية، ويتحدث فيما يحتويه عن "التصوف".
يقول الكتاب تحت عنوان "طريق التصوف"
بدأَت علوم الدين والشرع والحديث الشريف جميعها بما جاء فى القرآن، وانتهَت بدعم اتجاهات الإسلام وإعلاء الحاجز بينه وبين الأديان التوحيدية الأخرى التى تماثله، إلّا أنّه كانت هناك روافد فكرية أخرى بدأَت بالطريقة ذاتها ولكنّها اتَّجَهَت نحو تأكيد شيء ما قد يكون مشتركًا بين المسلمين والآخرين.
أحد هذه الروافد كان طريق التفكير والممارسة المسمّاة التصوّف، وربّما اشتقَّت الكلمة من "صوف" اللباس الذى يُفترض أنّ إحدى المجموعات الأولى كانت ترتديه، ومن المتّفق عليه الآن أنّها مستوحاة من القرآن.
والمؤمن المتأمّل بمعناه قد يمتلئ بإحساس غامر بسموّ الله والاتّكال المطلق لجميع الخلائق عليه، فالله القدير، الذى لا يكتنه سرّه، الهادى لكلّ المؤمنين، بكلّ عظمته موجود إلى جانب كلّ روح بشرية تتّكل عليه.
وقبل أن يخلق العالم، يُقال إنّ الله عقد ميثاقًا مع بنى البشر، سألهم: "أَلَسْتُ بِرَبِكُمْ قَالُوا بَلَى شهِدْنَا"، ومنذ وقت مبكر فى تاريخ الإسلام بدأ كأنّ اتجاهَين مترابطَين بدآ معًا: كان هناك حركة تقوى، وصلاة تسعى إلى صفاء النية ونبذ الدوافع المتعلّقة بالذات والملذّات الدنيوية، وأخرى تأمّلية عن معنى القرآن، كلتا الحركتين جرَتا فى سوريا والعراق أكثر من الحجاز، وكان من الطبيعى أنّهما كانتا تستمدّان الدعم من طرق التفكير والعمل الأخلاقى الموجود فى العالم حيث يعيش المسلمون، وهؤلاء المعتنقون للدين الجديد جاؤوا إلى الإسلام بطرقهم الخاصّة الموروثة، فقد كانوا يعيشون فى محيط يهودى ومسيحى أكثر منه مسلمًا، ذلك كان آخر عصر عظيم للرهبنة المسيحية الشرقية وللفكر التزهُّدى والممارسة التقشّفية.
وكان موقف النبى مبدئيًّا معاديًا للرهبنة: "لا رهبنة فى الإسلام"، إلّا أنّه فى الواقع، يبدو أنّ تأثير الرهبان المسيحيين كان منتشرًا، فكرتهم عن عالم سرّى من الفضيلة، أبعد من عالم طاعة القانون، والإيمان بأنّ ترك هذا العالم وقهر الجسد وتكرار اسم الله فى الصلاة يمكن، بمساعدة الله، أن يطهّر القلب وينقّيه من كلّ اهتمام دُنيوى ليتقدّم نحو معرفة حدسية أسمى للخالق.
ويمكن إيجاد بذور أفكار كهذه، بالشكل الإسلامي، فى بدء القرن الإسلامى الأوّل، فى أقوال الحسن البصرى (642-728):"إنّ المؤمن يصبح حزينًا ويمسى حزينًا ولا يسعه غير ذلك لأنّه بين مخافتَين: بين ذنب قد مضى لا يدرى ما الله يصنع فيه، وبين أجَل قد بقِى لا يدرى ما يُصيب فيه من المهالك... فاحذروا – ولا قوّة إلّا بالله – ذلك الموطن".