كلما تحدث المسئولون فى تركيا عن الإسلام، تحدثوا وكأنهم حامى الأمة والدين، وعلى مدار تاريخ الأتراك منذ نشأة الدولة العثمانية وصولا إلى حكومة التركى أردوغان، فالنظام هناك منذ القدم لم يعرف أبدا التحرك من أجل الدين، لكنه عرف جيدا كيفية الاستفادة منه، ولعل ما يحدث الآن من أزمة بين "فرنسا والعالم الإسلامي"، تدفعنا للبحث فى التاريخ وكيف كانت المصالح التركية الفرنسية متوحدة، وكيف فتحت الامتيازات العثمانية لصالح الفرنسيين باب السيطرة على ثروة الشرق.
وبحسب كتاب " موقف نصارى بلاد الشام من الإصلاحات فى الدولة العثمانية (1839 - 1914 م)" فأن التجار الأوروبيين حصلوا على امتيازات من خلال المعاهدة التجارية مع الدولة العثمانية عام 1387م، وأخرى عام 1479م، كما كان السلطان سليم الأول اعطى الفرنسيين والكتالونيين والجنوبيين امتيازات أخرى، إلا أن البداية الحقيقية للامتيازات كانت مع معاهدة عام 1535م بين الدولة العثمانية وفرنسا، حيث حصلت الأخيرة على امتيازات واسعة من حيث حماية رعاياها داخل الدولة العثمانية واعتبارهم مستقلين عن الدولة بقدر تعلق الأمر بالمحاكم، فضلا عن الامتيازات التجارية والاعفاءات من الضرائب، وعدت هذه الاتفاقية بمثابة نموذج لسائرالمعاهدات التى عقدت مع الغرب ودعيت الاتفاقية والتى تلتها بالامتيازات وهى تمتاز عن الاتفاقية السابقة بأنها منحت الأجانب الحق بعدم التقاضى أمام المحاكم العثمانية.
ويوضح مؤلف الكتاب سالف الذكر، أن الاتفاق مع فرنسا، لم يكن خاليا من اعتبارات سياسية، بحيث أن الدولة العثمانية لم تكن فى حاسة ماسة لذلك، لكن ضعفها أمام الدول الأوروبية جعلها تعقد الاتفاق، علما بأن هذه الاتفاقية تخطت أهداف تأسيسها وأصبحت تشمل من حيث الممارسة، حماية الرعايا مع التجار والمرسلين والدبلوماسيين الأجانب.
ويوضح الكاتب أيضا أن هذه الامتيازات كانت فاتحة لتنازلات عثمانية لهذه الدول، فضلا عن تعاون واسع النطاق مع فرنسا استمر لقرون عدة، موضحا أن نظام الملة العثمانى كان بمثابة الأرضية التى استند عليها الأوروبيون فى نفوذهم داخل الدولةالعثمانية، ولا سيما أن هذا النفوذ قد أخذ أشكالا قانونية بعد اتفاقية عام 1535م، لكن الاتفاقات التالية أدت إلى زيادة التدخل الأجنبى فى شؤون الدولة، وأدى إلى ترسيخ الفوارق بين المسلمين والمسيحيين.
ووفقا للباحث فى التراث الإسلامى وليد فكرى، وهكذا أصبح على أراضى الدولة العثمانية مواطنون أجانب لهم حقوق ليست للمواطن العثمانى نفسه، ولهم أن يبسطوا رداء تلك الحقوق على أتباعهم والمشتغلين لديهم من العثمانيين، ولهم أن يتدخلوا فى سياسات السلطة العثمانية تجاه الفئات التى حصلوا على حق "حماية مصالحها" من الرعايا العثمانيين!.
مشيرا إلى الفرنسيون تحالفهم كان مائعًا شكليًا، فهم يبدون الحماس للمشاركة فى مهاجمة آل هابسبورج ثم يتقاعسون ويلوذون بالأعذار أو يشاركون بشكل باهت ظاهري، من ناحية لضعف قوتهم-آنذاك-ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا يخشون اتهام المسيحيين الأوروبيين لهم بالخيانة لصالح عدو "كافر".. إلى حد أن بعض الفرنسيين كانوا يشاركون بشكل فردى فى حملات آل هابسبورج ضد الدولة العثمانية، وهذا بعلم السلطات الفرنسية نفسها!.
والبروتستانت الثائرين ضد السلطة الكاثوليكية كانوا رغم الصراع الدامى بينهما لا يصل بهم الأمر إلى حد التحالف الصريح مع العثمانيين.
واستغل الفرنسيون البعثات الدينية الكاثوليكية بحيث يخلقون لأنفسهم-خاصة فى الشام-قوة ناعمة تستطيع أن تحقق من خلالها مصالحها، بل وبلغ بهم الأمر أن أنزلوا-الفرنسيون-قواتهم فى لبنان سنة 1860م بحجة حماية الكاثوليك من عدوان الدروز.