انتهت معركة بدر الكبرى وعاد المسلمون إلى المدينة المنورة ومعهم الأسرى، فكيف افتدى أهل الكفار من أهل قريش "أهاليهم" ممن وقعوا فى الأسر.. وما الذي يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
قال كتاب البداية والنهاية تحت عنوان "بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسراهم"
قال ابن إسحاق: وكان فى الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي.
فقال رسول الله ﷺ: "إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء فى طلب فداء أبيه".
فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه؛ قال المطلب بن أبى وداعة، وهو الذى كان رسول الله ﷺ عَنى: صدقتم لا تعجلوا، وانسل من الليل وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به.
قلت: وكان هذا أول أسير فدى ثم بعثت قريش فى فداء أسراهم، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف فى فداء سهيل بن عمرو، وكان الذى أسراه مالك بن الدخشم أخو بنى سالم بن عوف فقال فى ذلك:
أسرت سهيلا فلا ابتغى * أسيرا به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى * فتاها سهيل إذا يظلم
ضربت بذى الشفر حتى انثنى * وأكرهت نفسى على ذى العلم
قال ابن إسحاق: وكان سهيل رجلا أعلم من شفته السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثنى محمد بن عمرو بن عطاء أخو بنى عامر ابن لؤي: أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله ﷺ: دعنى أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا فى موطن أبدا؟
فقال رسول الله ﷺ: «لا أمثل به فيمثل الله بى وإن كنت نبيا».
قلت: وهذا حديث مرسل بل معضل.
قال ابن إسحاق: وقد بلغنى أن رسول الله ﷺ قال لعمر فى هذا «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه».
قلت: وهذا هو المقام الذى قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله ﷺ وارتد من ارتد من العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها.
فقام بمكة فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف كما سيأتى فى موضعه.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضائهم قالوا: هات الذى لنا.
قال: اجعلوا رجلى مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه، فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا عندهم.
وأنشد له ابن إسحاق فى ذلك شعرا أنكره ابن هشام، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثنى عبد الله بن أبى بكر قال: وكان فى الأسارى عمرو بن أبى سفيان صخر بن حرب.
قال ابن إسحاق: وكانت أمه بنت عقبة بن أبى معيط.
قال ابن هشام: بل كانت أمه أخت أبى معيط.
قال ابن هشام: وكان الذى أسره على بن أبى طالب.
قال ابن إسحاق: وحدثنى عبد الله بن أبى بكر قال: فقيل لأبى سفيان: أفد عمرا ابنك، قال: أيجتمع على دمى ومالي، قتلوا حنظلة وأفدى عمرا؟ دعوه فى أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
قال: فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمرا ومعه مرية له وكان شيخا مسلما فى غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا ولم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد قريش أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير.
فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمر وقال فى ذلك:
أرهط ابن أكَّالٍ أجيبوا دعاءه * تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بنى عمرو لئام أذلة * لئن لم يكفوا عن أسيرهم الكبلا
قال: فأجابه حسان بن ثابت يقول:
لو كان سعد يوم مكة مطلقا * لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة * تحنُّ إذا ما أنبضت تحفز النبلا
قال: ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ﷺ فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان فيفكوا به صاحبهم فأعطاهم النبى فبعثوا به إلى أبى سفيان فخلى سبيل سعد.
قال ابن إسحاق: وقد كان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية ختن رسول الله ﷺ وزوج ابنته زينب.
قال ابن هشام: وكان الذى أسره خراش بن الصمة أحد بنى حرام.
قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكانت أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكانت خديجة هى التى سألت رسول الله ﷺ أن يزوجه بابنتها زينب وكان لا يخالفها وذلك قبل الوحي.
وكان عليه السلام قد زوج ابنته رقية - أو أم كلثوم - من عتبة بن أبى لهب، فلما جاء الوحى قال أبو لهب: اشغلوا محمدا بنفسه، وأمر ابنه عتبة فطلق ابنة رسول الله ﷺ قبل الدخول، فتزوجها عثمان بن عفان رضى الله عنه.
ومشوا إلى أبى العاص فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأى امرأة من قريش شئت.
قال: لا والله لا أفارق صاحبتى وما أحب أن لى بامرأتى امرأة من قريش، وكان رسول الله ﷺ يثنى عليه فى صهره خيرا فيما بلغني.
قلت: الحديث بذلك فى الثناء عليه فى صهره ثابت فى الصحيح كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب ابنة رسول الله ﷺ وبين أبى العاص، وكان لا يقدر على أن يفرق بينهما.
قلت: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله ﷺ فى فداء أبى العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله ﷺ رق لها رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذى لها فافعلوا».
قالوا: نعم! يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذى لها.
قال ابن إسحاق: فكان ممن سمى لنا ممن من عليه رسول الله ﷺ من الأسارى بغير فداء:
من بنى أمية: أبو العاص بن الربيع.
ومن بنى مخزوم: المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم، أسره بعض بنى الحارث بن الخزرج فترك فى أيديهم حتى خلوا سبيله فلحق بقومه.
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله ﷺ قد أخذ عليه أن يخلى سبيل زينب - يعني: أن تهاجر إلى المدينة - فوفى أبو العاص بذلك كما سيأتي.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق ههنا فأخرناه لأنه أنسب والله أعلم.