نواصل قراءة مشروع محمد عابد الجابرى، الذى يعد واحدا من أبرز المشاريع العربية الفكرية فى النصف الثانى من القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "فكر ابن خلدون. العصبية والدولة"، ويناقش الكتاب الذى صدر في عام 1971، التراجع والانحطاط والعقلانية واللاعقلانية والانتقال من العصبية إلى الدولة وتطويرها على أسس حضارية وفق فكر ابن خلدون الذى طرح فى نهاية المطاف مسألة وحدة الفكر الخلدونى وعلاقتها بالعامل الاقتصادى ناهيك عن معالم النظرية الخلدونية فى التاريخ الإسلامى.
ونعتمد على ما قاله "محمد بنعمر" فى مراجعته للكتاب، والتى يقول فيها، من الإشارات الأولوية التى يقف عندها محمد عابد الجابرى، ويراهن عليها فى قراءته لابن خلدون، هى المعارضة الشديدة، والمصادرة القوية والقول الصريح الرافض لمن يقول بان ابن خلدون سبق زمنه وتخطى عصره ليكون هو الرائد و المؤسس الحقيقى لعلم الاجتماع، قبل عالم الاجتماع الفرنسى إميل دركايم، لان هذا التصريح من شانه أن يفوت الفرصة لاستكشاف وإظهار الإشكالية العامة والسياقات التاريخية التى كانت ثاوية وحاضرة بشكل مضمر وقوى فى النص والمتن الخلدونى لاسيما فى كتابه المشهور المقدمة.
إضافة أن هذا القول بالأسبقية والريادة المبكرة من شأنه أن يغيب الأسئلة الحضارية العميقة، ويحجب الإشكالية المركبة التى كانت منطلقا وباعثا فى تأليف ابن خلدون لكتاب المقدمة، ولباقى كتبه .
فالنية والقصد المحمول فى المتن الخلدونى هو المراهنة من جعل التاريخ علما محددا بموضوعه مقصودا بغاياته وهى الأخذ بالعبر من الأحداث والوقائع التاريخية قصد الانتفاع بها فى الماضى والحاضر من خلال التمسك بالنافع، والانصراف عن الضار.
ومن العادة المألوفة أن المفكر محمد عابد الجابرى اختار التحفظ من إدراج ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع، لأن قوام منهجه وأساسه هو البحث فى التاريخ وفلسفته بصفة عامة، وفى علم العمران البشرى بصفة خاصة من حيث هو "علم القانون فى تمييز الحق من الباطل فى الأخبار".