خرج المشركون من غزوة الأحزاب، وهم متأكدون أن قوة المسلمين قد وصلت إلى أعلى مكانة، وقد فكر بعض المشركين ومنهم عمرو بن العاص فى الخروج بعيدا عن مكة خوفا أن ينتصر المسلمون، فذهب إلى الحبشة، ولكن ما الذى حدث هناك، وما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "قصة عمرو بن العاص مع النجاشى":
قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبى رافع، وحدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس أبى الثقفى، عن حبيب بن أبى أوس، حدثنى عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإنى لقد رأيت أمرا فما ترون فيه؟
قالوا: وما رأيت؟
قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا لرأى.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدى له، فكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه فى شأن جعفر وأصحابه.
قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشى فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع.
فقال: مرحبا بصديقى هل أهديت لى من بلادك شيئا؟
قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا.
قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الأرض لدخلت فيها فرقا، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى فتقتله؟
قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟
قال: ويحك يا عمرو أطعنى واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
قال: قلت: أفتبايعنى له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيى عما كان عليه وكتمت أصحابى إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ﷺ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة.
فقلت: أين أبا سليمان؟
فقال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى؟
قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبى ﷺ فتقدم خال بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إنى أبايعك على أن تغفر لى ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها".
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق: وقد حدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما أسلم حين أسلما، فقال عبد الله بن أبى الزبعرى السهمي:
أنشد عثمان بن طلحة خلفنا * وملقى نعال القوم عند المقبل
وما عقد الإباء من كل حلقة * وما خالد من مثلها بمحلل
أمفتاح بيت غير بيتك تبتغى * وما تبتغى من بيت مجد مؤثل
فلا تأمنن خالدا بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل
قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن خالد بن الوليد كان يومئذ فى خيل المشركين كما سيأتى بيانه، فكان ذكر هذا الفصل فى إسلامهم بعد ذلك أنسب.
ولكن ذكرنا ذلك تبعا للإمام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى، لأن أول ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشى كان بعد وقعة الخندق، الظاهر أنه ذهب بقية سنة خمس، والله أعلم.