العالم ليس خطًّا مستقيمًا، ولا أبيض أو أسود، وإن أغرتنا الحوادث وقادنا منطق التدوين والتأويل لأن نقرأه على هذه الصورة، الحقيقة أن طرفى الخط يلتقيان فى النهاية، سواء تمكن بعض السائرين عليه من معاينة هذه النهاية، أو حرم القدر ومحدودية البصر والبصيرة فريقًا منهم من هذه المعاينة، والشعر بوصفه عبورًا للزمان والمكان، ونفاذا لما وراء الحجب وما فوق الوعى والمادة، هو أسهل الطرق وأيسرها لأن نكتشف مخاتلات العالم وتداخلاته المائعة والرمادية والطفولية والمتوحشة فى آن، الشعر لعبة الطفل المتمرّد على الأسئلة التقليدية والإجابات المعلّبة، وعصا الساحر المراقص للأبصار والمخاييل، ونبوءة المتنبئ وحكمة الحكيم وفلسفة الفيلسوف، لهذا إن وقعت على جوهر الشعر فقد وقعت على جوهر العالم، وإن هتكت أستاره وحجبه المقدسة فقد هتكت ستر الديمومة والعبور الممتد والقانون الفاعل فى كل الأشياء والكامن وراءها، هذا ما تأتّى لطابور غير طويل من الشعراء فى تاريخ الاشتباك الطويل مع اللغة والوعى والمجاز، وهذا بالضبط ما فعله عبد الرحمن مقلد فى غنيمته التى عاد بها "من الحرب".
أُفكِّرُ فى أَنْ أَحُوزَ نَصيبَينِ
حَقْلِى وحَقْلَكَ
والحَجَرُ الصَلْدُ
يُفلِتُ مِنْ يَدى المُسْتَعِدّةِ للقَذْفِ
وأنت تَفرُّ إلى صَخْرَةٍ لا أراكَ بِها
الحرب ليست نزهة عابرة، هى طوفان من الخيالات والوعود التى نحملها فى ماء أرواحنا، ويحملها العدوّ بنصّها على الجانب الآخر، أو تنعكس من وجه مائنا على مراياه، والفاتورة واحدة وفادحة فى النهاية، موت واحد يتوزّع بصورتين مختلفتين، على الفائز والخاسر، هذا ما يؤكد عليه "مقلد" فى قصيدته "من الحرب"، الفائزة بالجائزة الأولى فى الشعر العربى، التى نظمها المركز الثقافى المصرى فى باريس تحت شعار "من أجل العيش المشترك"، والتى يقترب فيها من سؤال الوجود فى جوهره الصافى، ما الذى ينمّى رغبة الحياة فى صدورنا إلا القنص والكسب؟ وما الذى يقتلها ويفنيها إلا هما أيضًا؟ هكذا تبدو المعادلة بسيطة من فرط تعقيدها، وهكذا يشتبك معها الشاعر ببساطة مثيرة للدهشة، مبتعدا عن الخطاب الأيديولوجى الموجه، مسبوك الشعارات وزاعق الصوت، لا تحتاج معاداة الحرب ونقدها وهجاؤها لصخب وإزعاج كاللذين تثيرهما المعارك وغبارها، يمكننا أن نلخص قسوة العالم وفداحته فى حقل واحد وبئر مشتركة وإرادتين متنازعتين وطموح يغذيه الطمع ولا تهذبه الإنسانية.
أُفكِّرُ فى زَوجَتَين
وحَفْلَى نَبيذِ ورَقْصِ
أفكِّرُ فى القَنْصِ
وَحْدِي
لى الأرضُ مُمتدَةٌ للتنَزُّهِ
لى كُلٌّ هذا النَماءِ
لى الحَيوانُ أخَالُ بأصوافها
والنسيجِ المُمَدَدِ واللحمِ
عَلى جَبَلى أتَلقَى النُبوءاتِ
والوَحْى يُشْبِعُ قَيلُولَتي..
ويَدَاى تُبَادِرُ وَجْهَكَ بالكَدَمَاتِ
وتُبْعِدُ مِنْجَلَكَ الحَادَ عَن مَقْتَلى
قصيدة عبد الرحمن مقلد قصيدة ردع نفسى، تقرأ العالم من داخل روح ووعى القاتل/ المقتول، تفكك الخيوط المتشابكة لتنفذ إلى الحقائق الصافية، الدائرية الدائمة والتاريخ الذى يعيد نفسه، الضعف الذى يملأ الصدور، وهو وحده الذى يقودنا لأن نكون قتلة أو مقتولين، ضَعف التطلع إلى مزيد من كل شىء، وضعف الخوف من كل شىء، لا تحتاج لمحاصرة هذا الضعف إلا لأن تقرأ قصيدة "من الحرب" وتوغل فى عالمها، وأن يقرأها الآخر من موقعه، دون أن يتقمص روحك أو تتقمص روحه، فالردع النفسى سيتحقق فى كل الأحوال، القانون المجرد الذى يحكم العالم الإنسانى، والذى وصل عبد الرحمن مقلد لكيميائه وقطّره فى قصيدته، صانعا حالة من المزج والتطابق بين القاتل والمقتول، ليس لتشابههما فى الطيبة أو الشر، ولكن لأن الأحلام واحدة ومرايا الأرواح والهم واحد واحدة وقانون العالم والدراما واحد أيضًا.
أَتَذَكَرُ كَيفَ دَفَعْنَا الذِئَابَ وهَائمَةَ الصَحَراءِ
عن البَيْتِ هَذا الذى أُوقِدُ النَارَ فيه
لتُشعلَ رُوحَك
والوقتُ يَهْرُبُ كالفأرِ من ناظرَيْك
أُرَتِبُ كَى أَنْصُبَ الفَخَّ
أَنْظُرُ كيفَ حَفرْنَا
بأذْرُعِنا البئرَ هذا الذى نَتسابقُ
مَنْ يَدفعُ الآخَرَ الآن فيه
يبدأ عبد الرحمن مقلد حربه الشاعرة بغنائية شجية، حاز لها ضربة توفيق مسبقة باختيار الإيغال بها فى الغنائية بعيدًا عن العقلنة الباردة، والتورط فى موضوعية لا تمس قانون العالم ولا تشرب مع تصاريف الحياة من كأس واحدة، ليقنن العالم ويُقعّد له من منظور جواني وبغنائية/ ذاتية خالصة، وفي الوقت نفسه يُلبس هذه الغنائية منطقا عقلانيا كافيا لاختزال شساعتها وتأطيرها في قانون مجرد وموضوعي يصلح لإسباغه على العالم، أو فك شفرات العالم ورموزه المغلقة من خلاله،منشئًا عالمه الشعرى واسع الامتدادات والانزياحات والأسئلة حول ذاتين إنسانيتين، لا تستطيع الإمساك المتيقن بإحداهما ولا اكتشاف متى غابت واحدة منهما لتفسح للأخرى مجال الحضور، ووفق هذا المنطق يستكمل النص معماره البنائى والدلالى، والجمالى أيضًا، عبر الرواية على روحين قلقتين ومتداخلتين، تحضران فى آن واحدة بضمير المتكلم، وتغيبان فى ضمير المُخاطَب، يوحّد بينهما الهم المشترك والخيال الواحد واستهداف مآل تشتهيه النار المتقدّة فى الصدر، قواسم مشتركة لا يمكنك أن تفرز الناس بدقة ووضوح إذا اعتمدتها معيارًا لاقتناص البصمات الخاصة والمميزة، فكلنا متشابهون فى الإخلاص لقضايانا المركزية والاستماتة فى سلب الناس أشياءهم انتصارا لأشيائنا، سواء كانت مهددة فى وجودها، أو كنا مدفوعين بشهوة القنص وحسب.
وأنت تُعدُ عَشَاءً
لضَيفيكَ
تبدأُ حَفلةَ شَايْ..
كان لزامًا علينا التَجَهزُ للحَرب
كنا نُغذى بَنادَقَنا بالرَّصَاصِ
ونُدفعُ آلتَنَا العَسْكَرَيةَ فى الوَحْلِ
نَعْزِفُ مَارْشَاتِنا
ونُرَدِّدُ خَلفَ الطُبَولِ
وأنتَ على بَابِ بيتَكَ
تضبطُ مَوجاتِ مِذْيَاعِك الخَلَويِّ
على صَوتِ نَاي..
نسْعَلُ منْ قَسْوَةِ البَردِ
والنَارُ تُدفئ مجلسَك العذبَ
تَرَى فى عُيونِ صَبيكَ
هذا النُعَاسَ الجَميل
نَرى دَمَنا يَتدفقُ
والضَارياتُ تُمزقُ أشلاءَنا
تدور القصيدة على مقطعين: الدم، وعدوّين، محورها ضمير المتكلم، ولكن بطلها الفعلى "المُخاطب"، المتعيّن دلالة وأثرًا، والغائب فعلاً وتأثيرًا، وماء المقطعين وكيمياؤهما الأسئلة الوجودية البسيطة والملغزة، والتى تطلع وتتابع وتثمر وتنفجر فى وجوهنا من رحم المفردات السيّالة المتدفقة، والصور والأخيلة التى لا تبدو مدهشة للوهلة الأولى، مجرّد استدعاءات نفسية تثيرها شحنات لغوية وإشارية لخطاب قائم ودرامى بين شخصين، سريعًا ما نكتشف أنه أقرب إلى المونولوج الداخلى، إذ لا يمكننا القبض على حقيقة المواجهة الخطابية المفترضة من عدمها، الآخر مقتول أو مهزوم ومطرود من بيته، والحوارية الشعرية ليست إلا تسجيلا لما بعد الحدث، اعتراف القاتل بجريمته، أو اعتراف الجندى الغازى بغزوته، وهو الاعتراف غير الخالص لنتيجة، ففى باطنه تمور الأسئلة الصعبة بتداخلاتها، وكأن الـ"أنا" وهى تقرّ بأفعالها، تقر فى الآن ذاته بالضعف، وتحمّل نتيجته للمُخَاطب، والذى قد يكون هو نفسه المتكلم فى تصور استباقى لما قبل الحدث، هكذا تقودنا بساطة "مقلد" البادية فى لحم القصيدة ومعمارها إلى "وحل التجربة" الثرية والممتلئة ببساطتها، لتبدو تجربة التلقى الخدّاعة، مع مفتتح النص وصيرورته ومعجمه وأخيلته، توريطًا مقصودًا فى نص معقد وغير سهل، يشبه دائرية العالم وإعادته الدائمة لحكاياته وقصصه ومصائر ناسه.
ولأن العالم لا يتقعّر ولا يتجمّل فى حكاياته، اعتمد "مقلد" فى مشاكلته له على نسق جمالى مكشوف ومكاشف، لا يستند إلى البلاغة التقليدية لإقامة معمار لغوى فاره وباذخ، أو تنميق وتوشية نمط مجازى كلاسيكى عماده البُنى الاستعارية والتخييلية وفق الأنساق البلاغية والتعبيرية المعتادة، فينحو الشاعر فى قصيدته منحى حداثيا يتحلل من رتابة وأغلال الجمال اللغوى المحض، مراهنًا على جماليات الحدث والكشف والتبصير، عبر بنية سردية تحتفى بالصورة المشهدية وبالتصاعد الدرامى المؤسَّس على قوة الجملة الفعلية وحركيّتها، وعلى ثقل التفاصيل الصغيرة وعضوية تربيطها وتكثيفها واستحلاب دلالاتها، إضافة إلى الرهان على الأثر النفسى والشحن العاطفى للجملة اللغوية، وعلى التقابلات البنائية والتخييلية والدلالية بين عناصر المشهد الشعرى، تعبيريا وبصريا، ما يصنع فسيفسائية بهيّة وغنية الألوان، لا تفقد كل قطعة فيها أثرها الدلالى والجمالى فى صورتها الأولية، ولكنها لا تكتسب حضورها العضوى والفاعل إلا فى نسقها الكامل، كما يليق بمسبوكة درامية تتآلف فيها الأحدث والشخوص والمثيرات والبواعث والنتائج والمآلات، لتصنع جسد الحدث وروحه وغايته وتأثيره.
بينما كان يَطلبُ قَادَتُنا أن نُوليَ
صوبَ دِيارِ العَدُوِّ
ـ ديارِكَ ـ
نزرعُ ألغامَنا فى الحُقولِ
وأسَفلَ جِسرِ المُشاةِ
وأن نَتجَهزَ بالمَدْفَعِيةِ
نَنتظرُ البَدءَ
نُشعلُ آخِرَ تبغَاتنا
ريثما تَنتهى من صَلاتِكَ
تَدخلُ فى النَومِ
نبدأُ فى قَصْفِ بلدتك المطمئنةِ
الدائرية التى اقتنصها عبد الرحمن مقلد وسجلها فى "من الحرب" بمقطعيها، لم تتحقق فقط فى حالة التماهى بين الضمائر والمصائر فى الإطار الموضوعى للنص وداخل فضائه الدلالى، وإنما تحققت بقوة ووضوح فى معمار النص ومستوياته البنائية، إذ اعتمد "مقلد" التدوير الإيقاعى/ العروضى تقنية لتدشين وتشكيل نصه، عبر الاتكاء على تفعيلة بحر المتقارب فى صيغة "مدوّرة" يمتد فيها العالم الشعرى على سطر واحد، وكأنه يُكثّف الحوادث والتداخلات المعقدة للعالم وشخوصه، والتى نقلها إلى قصيدته "الديودرامية"، ليعيدك إلى النظرية الرياضية المبسّطة والكاشفة، فإذا كان العالم الذى تراه بسيطًا هو فى الحقيقة معقد للغاية، وإذا كنت قد فقدت ثقتك فى موازنة الأمور وفرزها مع التورط فى المعادل الشعرى لهذا العالم، فإننى الآن أضعك على باب المعادلة مرة أخرى، وأفرد لك القصيدة سطرًا واحدًا، هكذا يقول الشاعر، وكل الحكاية أنك لم تتبع إيقاع النص لتفض اشتباكاته وتكتشف خطّيته القارّة فى الدائرية، وربما تكون مشكلتك مع العالم نفسه أنك لم تتبع إيقاع روحك لتكتشف دائريته القارّة فى الخطية الموهومة.
ليسَ لنا غَيرُ هذا الحَديدِ
لنَأخُذَه سَاترًا ولَبُوسًا
ونَقتلَ آخِرَ مَنْ يَتبقَى من الجُنْدِ
فى الحِصْنِ
ننسِفُ مَبْنَى البَريدِ
ودَارَ الحُكُومَةِ
نَهدمُ دَارَك أنتَ
ولابُدَ أنَكَ
مِن بعدِ حين
ستصنعُ نَصْلا
وتَفْجَأنِى
وأنا أتَمددُ فى ظِلِّ بَيتى الجَديدِ
وبيتِك من قَبلُ.