نواصل إلقاء الضوء على المشروع الفكرى للفيلسوف زكى نجيب محمود (1905- 1993) ونتوقف اليوم عند كتابه "أفكار ومواقف"، ويضم مجموعة من المقالات التى كتبها فى جريدة الأهرام على مدى سنوات.
يقول زكى نجيب محمود فى مقالة بعنوان "دفاع عن العقل":
كانت الخمسينيات فى حياتى الثقافية، معركةً متصلةً حاميةَ اللهب، أُدافِع فيها عن ضرورة التزام الإنسان فى حياته العلمية بمنطق العقل، فى صرامةٍ لا تجد فيها العاطفة ثغرةً لها، تتسلل منها، فتُضعِفُ ذلك المنطق العقلى بميولها وأهوائها، ولم يكن ذلك تهوينًا من شأن العواطف الإنسانية، وأهميتها البالغة فى حياة الإنسان، لكن لكل شيء مجاله، فإذا كُنَّا لا نُطالب الفنان أو الأديب، بالتزام المنطق العلمى، فى إبداعه الأدبى أو الفني، فكذلك لا ينبغى لنا، أن نطالب الباحث العلمى بأن يُقحِم شيئًا من وِجدانه فى مجاله العقلى.
وكانت عقيدتى هى أن عصرنا هذا — وكنا عندئذٍ فى أول الخمسينيات — يسوده استهتارٌ عجيب فى كل شيء، وكان الذى يهمُّنى يومئذٍ، ناحيةً خطيرةً من نواحى حياتنا، هى ناحية التفكير والتعبير، فلقد اعتادت الألسنة والأقلام، أن تُرسل القول إرسالًا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المُتكلِّم أو الكاتب، أدنى الشعور، بأنه مطالَب أمام نفسه، وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سَندًا، من الواقع، الذى تراه الأبصار وتَمسُّه الأيدي، فكتبتُ حينئذٍ أقول: إنه لو كان هذا الارتجال الحر الطليق، من قيود الواقع وشكائمه، مقصورًا على جوانبَ هينةٍ يسيرة من حياتنا، لَمَا كان الأمر بحاجة إلى جَهدٍ يُبذل، لكنه ارتجالٌ اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد.
فكان أن وجَّهتُ أغلب جَهدى نحو الاتجاه التجريبى العلمى من اتجاهات الفلسفة المعاصرة، وهل كان يمكن للعلم أن يبلُغ ما قد بلَغه من السيطرة على عقول الناس، وعلى حياتهم العملية فى عصرنا هذا، دون أن يكون لذلك صداه فى الفلسفة وأهدافها؟ إن تاريخ الفكر فى كل مراحله، لم يشهد عصرًا رَفضَت فيه الفلسفة أن تُتابع الحركة الفكرية السائدة فى عصرها، ولستُ أدرى من ذا الذى كذب الأُكذوبة الكبرى عن الفلسفة، فقال عنها إنها تعزل نفسها فى أبراجٍ من العاج، فلا تصطخب مع تيار الحركة الفكرية فى شتى ميادينها؟ متى كان ذلك، وعند مَن مِن الفلاسفة؟ هل كان سقراط وهو يجول فى طرقات أثينا، يناقش الناسَ فى أمور حياتهم الخُلقية، معتزلًا فى برج من العاج؟ هل ترك فلاسفة العصر الوسيط، فى الشرق الإسلامى أو فى الغرب المسيحي، سائرَ الناس فى وادٍ، وذهبوا هم فى وادٍ آخر؟ ألم يجولوا مع الناس فى الميدان الأساسى الهام الذى كان يشغلهم، وهو ميدان العقيدة الدينية وتحليلها وتأويلها وتأييدها؟ هل ترك كانط علماء عصره يبحثون فى الرياضة وفى الطبيعة، وحَبَسَ نفسه دونهم فى بُرجٍ عاجي، يتكلم فيما لم يكونوا مُشتغلِين به؟ أو أنه كان يُحلِّل قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة التى كان يأخذ بها علماء عصره؟
وكذلك أردنا للفلسفة أن يكون لها دورها فى عصرنا، أردنا لها أن تجلس مع سائر رجال العلم على مائدةٍ واحدة، وأن تسكن معهم فى بيتٍ واحد؛ فلئن كان علماء عصرنا فى شغلٍ شاغل من الطبيعة الذرية، التى غيَّرَت من وجهة النظر إلى قوانين الطبيعة، فجعلَتها احتمالًا لا يقينًا، وجعلَتها إحصاءً لما يقع بالفعل، لا إملاءً لما ينبغى أن يقع، فلا بُدَّ للفلسفة كذلك أن تشغل نفسها بهذا الاحتمال فى صدق القوانين العلمية، ما معناه؟ وبهذا الإحصاء الذى تُبنى عليه المعرفة العلمية، ما سنده من منطق العقل؟
كان مبدئى — وما زال — هو أن الفيلسوف الذى ينفض يدَيه من تيارات عصره، إنما هو مُتمرِّد، لا يُفيد أحدًا بعصيانه، وتيارُ العصر هو بغير شك — وفى أهم جانبٍ من جوانبه — تيار العلوم الطبيعية التجريبية، أو ما يتصل بتلك العلوم من قريب أو بعيد، فكيف تُغيِّر الفلسفة التقليدية من نفسها، بحيث تتجاوب مع عصرها؟ إنها تفعل ذلك — فى رأينا — بعدة وسائل، من أهمها أن تترك العلوم لأصحابها؛ فلا يجوز للفيلسوف اليوم أن ينافس العالم فى علمه، لا يجوز له — مثلًا — أن يبحث فى طبيعة الذرة، أو فى طبيعة الضوء، أو الصوت، أو طبقات الأرض، أو أجرام السماء، وهنالك من رجال العلم المُتخصِّصِين من جعلوا هذه الموضوعات مدار اختصاصهم العلمي. وكذلك لا يجوز للفيلسوف أن يبحث فى طبيعة الإنسان، وهناك من علماء النفس وعلماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع وغيرهم، من يُحاولون البحث فى طبيعة الإنسان وطرائق سلوكه وتفكيره، ما وَسِعَتهم المحاولات العلمية، وبمقدار ما يمكن إخضاع الإنسان للتجارِب والمُشاهَدات العلمية.
وقد نسأل: إذا نحن تركنا العالَم للعلماء المُتخصِّصِين، لكلٍّ منهم ميدانه الخاص، فماذا يبقى للفلسفة بعد ذلك؟ الجواب هو أن تضطلع الفلسفة — بين ما تضطلع به — بتحليل الأُسس التى تقوم عليها العلوم نفسها؛ وذلك أن كل علم من العلوم، يفترض لنفسه نقطةً معينة يبدأ منها، ثُمَّ يصعد، لكنه لا يُعْنَى بنقطة البداية نفسها، ليرى كيف جاءت، فتكون هذه العناية بها، هى العمل الأساسى للفيلسوف، يبدأ علم الحساب فى الرياضة — مثلًا — بالأعداد، ثُمَّ يصعد منها إلى العمليات الحسابية التى تزداد تركيبًا وتعضيدًا كلما صعِد، لكنه لا يُعنَى بالجذور الأُولى التى نبتت منها الأعداد ذاتها، فإذا التفت باحثٌ هذه اللفتة، كان فيلسوفًا يُفلسِف علم الحساب. وكذلك قل فى علم الهندسة من علوم الرياضة، إنه يبدأ بفكرة المكان ثُمَّ يأخذ فى تقسيم ذلك المكان المُفترَض، إلى نقط وخطوط ومُسطَّحات ومُثلَّثات ومُربَّعات ودوائر، لينظر فى خصائص كل قسم من هذه الأقسام، لكنه يترك فكرة المكان ذاتِه، لا يُهمُّه أن يعرف كيف تكوَّنَت، مع أنها هى الأساس الذى بُنى عليه علْمُه. فإذا تناولها باحثٌ بالنظر والتحليل، كان عمله هذا هو فلسفة تُفلسِف عِلم الهندسة. وقل شيئًا كهذا فى كل علم وفلسفته. وبهذا يجيء علم العصر وفلسفته متكاملَين موصولَين فى خطٍّ فكرى واحد.
وإذا كان هذا هو المهمة الأولى للفلسفة فى عصرنا، فإنه لا بُدَّ لها أن تقف طويلًا عند الألفاظ الهامة، التى تكوِّن أركانًا أساسيَّة فى التفكير العلمي، لتتناول تلك الألفاظ بالتحليل الذى يُحدِّد معانيها، والذى يتعقَّبها إلى أصولها، وهو تحليلٌ يغلب عليه الجفاف — كأى تحليلٍ علمى آخر — فهو لا يُقدِّم للقارئ حديثًا سهلًا شائقًا سائغًا، يقرؤه وكأنه يقرأ حكاية حب ومغامرات؛ ومِن ثَمَّ كانت كراهيةُ الجمهور العام لمثل هذه التحليلات التى يراها عابر السبيل وكأنها تُعقِّد البسيط، وتُغمِض الواضح، لكن ما يكرهه عابر السبيل من الجمهور العام، لا يجوز أن يكون كريهًا كذلك عند من أخذ نفسه بدقة العلم وعَنائه وجَفافه.
ومع ذلك، فقد وَجدَت الدعوةُ إلى هذه الدقة العلمية — برغم جفافها وعنائها — أقول إن هذه الدعوة إلى الدقة العلمية، التى أطلقناها فى الخمسينيات، إيمانًا بضرورتها، لا فى الميدان الفلسفى الخاص فحسب، بل بضرورتها كذلك فى ميادين التفكير الأخرى، كلما أراد باحثٌ أن يكون لبحثه كل الدقة التى يَتطلَّبها منطق العلوم. إن هذه الدعوة وَجدَت أشد المعارضة من بعض المُشتغلِين بالفلسفة عندنا؛ لأنها دعوةٌ جاءت مخالفةً للألوان المألوفة من العمل الفلسفي؛ وذلك لسببٍ بسيط، وهو أن عصرنا لم يجئ على الصورة نفسها التى أَلِفتْها سوالف العصور.
وخَتَمتُ أعوامَ الخمسينياتِ بكتابٍ أسميته "نحو فلسفةٍ علمية"، لو كنتُ حَكمتُ على مصيره، فى ضوء ما قد أصاب إخوةً له سبقته، لقُلتُ إنه لن يظفَر بنظرةٍ من فُرسان الفلسفة الذين يُجيدون فى ميدان الفروسية، ركوبَ الجياد، ورمايةَ الرمح، والمبارزةَ بالسيف، لكنه — برغم ذلك كله — كان هذا الكتاب الذى ظفِر — فور صدوره — من الدولة بجائزتها، مما دلنى على أنها دولةٌ لا تُضيع أَجْر العاملِين.