تمراليوم الذكرى الـ104 على ميلاد الفيلسوف الكبير الراحل عبد الرحمن بدوى، إذ ولد بالقاهرة في 4 فبرايرعام 1917، وهو أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، إذ شملت أعماله أكثر من 150 كتابا تتوزع ما بين تحقيق وترجمة وتأليف، ويعتبره بعض المهتمين بالفلسفة من العرب أول فيلسوف وجودي مصري، وذلك لشدة تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر.
تخصص د.عبد الرحمن بدوى (1917- 2002) فى الفلسفة الوجودية وكانت رسالته للماجستير بعنوان» مشكلة الموت فى الفلسفة الوجودية» عام 1941، وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان» الزمان الوجودى» عام 1944التى علق عليها طه حسين أثناء مناقشته لها فى 29 مايو 1944 قائلا: «أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى». وناقش بها بدوى مشكلة الموت فى الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي.
وقد تأثر بوجودية الفيلسوف الألمانى هايدجر ( 1889- 1976) مع الاهتمام بالنزعة الديناميكية التى تجعل للفعل أولوية على الفكر والتى تستند فى استخلاصها لمعانى الوجود إلى العقل والعاطفة والإرادة معا، وإلى التجربة الحية، وعلى ملكة الوجدان بوصفها أقدر ملكات الإدراك على فهم الوجود الحي.
وكان ما يميز "بدوى" عن جميع أقرانه من الفلاسفة العرب في العصر الحديث، هو التنقيب في التاريخ وتسليط الضوء على قضايا مسكوت عنها، عن طريق تجميع المخطوطات النادرة بعد التنقيب عن نُسخها في مكتبات أوروبا، وإجراء مقارناتٍ لمختلف القراءات الممكنة لنصّها، مع التثبت من كلماتها وتحقيق معانيها.
كما أن عبد الرحمن بدوى بدأ مسيرته من الصفر، فلم يقف عند تراث النهضة العربية إلا لماماً، بل خاض غمار الفلسفة اليونانية والأوروبية من أبوابها الوجودية، وهي التي أوصلته إلى منابع العقل العربي والخطاب الاستشراقي عنه، في حركة تشبه العود الأبدي، مروراً من درس الفيلولوجيا الأوروبية في القرن العشرين، وصولاً إلى أدغال الفكر الإسلامي بكل تشعباته.
وقد اتَّبع المفكّر المصري هذا التصوّر، فجعل من التراث العربي الإسلامي موضوع استقصائه الرئيس، وتصدّى له تحقيقاً وتثبّتاً وإخراجاً دون أن ينحصر اشتغاله على نصوص الفكر الإسلامي المحض، بل تعداه إلى الروافد الإغريقية والتأثيرات الغنوصية، الفارسية والهندية، واستعادها جميعاً بنفس صرامة المنهج التحليلي، فاستعرض صفحات جريئة من "تاريخ الإلحاد في الإسلام" (1945)، وبنفس الروح أرَّخ لـ"شطحات الصوفية" (1949) وهيام البسطامي، ونَشَر مدوّنات الحِكَم المنبثقة عن أخلاق الفلسفة وتجارب العقل، كتلك التي صاغها المبشر بن فاتك في "مختار الحِكَم ومحاسن الكَلِم" (1958).
وقد عزز دراساته هذه لعيون التراث بالاطلاع الواسع على أهم ما توصّلت إليه أبحاث المستشرقين، الذين يكتبون باللغات الأوروبية، في موضوعات شديدة التعقيد والتجريد ومنها المتصلة بكليات الفلسفة الإغريقية، مع التركيز على المتن الأرسطي والأفلاطوني، فألف "رَبيع الفكر اليوناني" (1943) وأردفه بـ"خريف الفكر اليوناني" (1946)، في تلخيص أشبه ما يكون بالسرد النسقي لآخر ما توصّلت إليه مدارس الاستشراق حول التلاقي بين الفكرَيْن: الهلليني والعربي على امتداد العصور الوسطى، وهو ما تطلَّب منه اجتراح خطابٍ جديد لم يعهده الدرس العربي وقتها.
وكان من ثمراته إمداد اللغة العربية بكل مفردات المنهج الاستشراقي (الفيلولوجي، التاريخي، النقدي الإشكالي) وتطعيمها بالمفاهيم والمقولات التي صاغتها أجيال الباحثين لقراءة التراث بشكل موضوعي، لا تمجيد فيه ولا تحيّز.
جهدَ بدوي في إظهار مدى تنوّع فنون الثقافة الإسلامية من خلال الكتب التي حققها، فلم يقدم وجهاً واحداً ضيّقاً، بل بيّن تشعب تيارات هذا التراث وتناقض مدارسه وثرائها، رغم وجود إشكالية جامعة: النزاع المستدام بين العقل والنقل، بين الحرية والقضاء. ولذلك عكف على فحص العلاقات بين العلوم الأصيلة والعلوم الدخيلة، كما كان يطلق عليها قديمًا، أي التي انعقدت بين المعارف النقلية والعقلية، ليثبت عبقرية هذا الفكر الإسلامي في تمثّل المفاهيم الكونية.