نواصل إلقاء الضوء على كتابات وأفكار المفكر المصرى الكبير زكى نجى محمود (1905- 1993) والذى يعد من أبرز مفكرى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "برتراند رسل".
يقول زكى نجيب محمود فى مقدمة كتابه
لست فى الفلسفة تابعًا: "برتراند رسل فى كل ما يذهب إليه، ذلك أنى قد حددت عقيدتى الفلسفية تحديدًا جليًّا واضحًا، وإنى لأزداد إيمانًا بصواب تلك العقيدة كلما ازددتُ قراءةً ودراسةً وتفكيرًا، وليست هى بالعقيدة التى يأخذ "برتراند رسل" بكل تفصيلاتها، وإن تكن مسايرة لفكره فى الاتجاه والهدف ومنهج البحث.
فأنا أميل بفكرى نحو "الوضعية المنطقية" التى تُحرِّم على الفيلسوف باعتباره فيلسوفًا، إذ قد يكون الفيلسوف عالمًا أيضًا فى هذا العلم أو ذاك، وتُحرم على الفيلسوف أن يقول عبارة واحدة ليُدلِى فيها برأى فى الطبيعة أو الإنسان، لأن الرأى كائنًا ما كان، هو من شأن العلماء وحدهم، يقولونه بعد ملاحظة علمية وتجارِبَ يُجرونها فى المعامل، وعمل الفيلسوف الذى لا عمل له سواه، هو تحليل العبارات التى يقولها هؤلاء العلماء تحليلًا يُوضِّحها ويضبطها، وقد يحدث، بل إن هذا هو ما يحدث فى معظم الأحيان، أن يتولَّى العالِمُ نفسُه توضيح عباراته وتحليلها، وعندئذٍ يكون هذا العالم فيلسوفًا إلى جانب كونه عالمًا، لكنه قد يحدث أيضًا أن ينصرف العالم إلى موضوع بحثه، دون أن يقف عند هذه الكلمة من كلماته أو تلك العبارة، فيتولى ذلك عنه فيلسوفٌ مختص، وبهذا تُصبح الفلسفة تحليلًا صرفًا، أو إن شئت فقل إنها تُصبح "منطقًا" بحتًا، وتُلقى عن عاتقها ذلك الحِملَ الثقيل الذى تصدَّت له فيما مضى، حِمل الحديث عن الكون فى أصوله وغاياته، وهو حديث لم ينتهِ به الفلاسفة إلى شيء، وكان يستحيل عليهم أن ينتهوا إلى شيء؛ لأنه حديث فى غير موضوع من هذه الموضوعات التى يجوز فيها الكلام على نحوٍ منتجٍ مفيد.
على أن "رسل" إن لم يكن واحدًا من رجال "الوضعية المنطقية"، فهو على رأس طائفة من الفلاسفة المعاصرين، كانت هى التى خلَقَتها خلقًا، وأوحَت بها إيحاءً مباشرًا؛ لأنه منذ باكورة أعماله الفلسفية قد جعل تحليل المُدرَكات العلمية شغله الشاغل، وبوجهٍ خاصٍّ مدرَكات الرياضة، كالعدد واللانهاية، لأنه كان رياضيًّا ممتازًا أولًا، ففيلسوفًا رياضيًّا ثانيًا، فكانت تحليلاته تلك منبهًا قويًّا لجماعةٍ من تلاميذه ومن المتأثرين به، أن يجعلوا التحليلات المنطقيةَ للعبارات العلمية، بل للعبارات اللغوية بصفةٍ عامة، هى وحدها المجال المشروع للفلسفة والفيلسوف، وهو رأى أدلى به "رسل" نفسُه صراحة، وإن يكن توسع فى معناه، بحيث استباح لنفسه أن يكون صاحبَ مذهب إيجابى فى الطبيعة، وفى الإنسان، مما يتناقض مع ذلك المبدأ بمعناه الدقيق.
ومهما يكن من أمر الاختلاف بين "برتراند رسل" وجماعة "الوضعية المنطقية" التى أنتمى إليها، فلهذا الفيلسوف من الجوانب الرئيسية — فى عمله وفى شخصه — ما يُقرِّبه من عقلى ومن قلبى معًا.
فهو — أولًا — يُريد ويُلِح فى إرادته أن تكون الفلسفة عِلمية المنهج، بحيث تُقلِع عما تعودته من ضرب فى التأملات التى تطير إلى أجواء السماء على جناحَى خيالٍ طامح، لكنه جامح، والمقصود بعلمية المنهج الفلسفى نقطتان رئيسيتان؛ أُولاهما: أن يتناول الفيلسوف مشكلةً جزئية واحدة، ولتكن هذه المشكلة — مثلًا — عبارةً واحدة من عبارات الكلام، لينتهى فى تحليلها إلى نتيجةٍ إيجابية، يصحُّ أن يأتى بعده سِواه، فيبنى عليها عمله ونتائجه، وبهذا تُصبح الفلسفة — كالعلم — عملًا يتعاون عليه المتعاقبون، فيزداد بناؤها طابقًا فوق طابق، ولا تعود — كما هى حالها على مرِّ القرون السالفة — عملًا فرديًّا، بمعنى أن يبنى كلُّ فيلسوف لنفسه بناءه كاملًا شامخًا؛ ليأتى مَنْ بعده فيُقوِّضه تقويضًا ليُعيد لنفسه بناءً جديدًا، وهكذا دواليك، حتى لا ترى فرقًا ملموسًا من حيث التقدمُ والترقى بين بناءٍ فلسفى يُقيمه فيلسوف القرن العشرين، وبناء فلسفى قديم أقامه يونانى فى القرن الخامس قبل الميلاد، بل كثيرًا ما يَرْجح القديمُ الجديدَ عظمةً وشموخًا. إن هذا العمل الفردى إن جاز فى الآداب والفنون، فهو لا يجوز فى نتاج العقل من فلسفةٍ وعلم، نعم يجوز للشاعر أو الفنان أن يُعبِّر عن ذات نفسه كما يشاء، بغضِّ النظر عن سابقيه، لكن مثل هذا الاستقلال الفردى لا يجوز أبدًا فى المجال العقلي.
وأما النقطة الثانية التى قصدنا إليها من علمية المنهج فى التفكير الفلسفي، فهى الأداة التى نستخدمها فى تحليلنا للمشكلة الجزئية التى نختارها، وأداة المعاصرين جميعًا ممن يهتمُّون بالفلسفة التحليلية — وعلى رأسهم «رسل» — هى المنطق الرياضى الذى ينصبُّ على العبارة الموضوعة تحت البحث، فإذا هى أقربُ ما تكون إلى مسألةٍ فى الجبر أو الحساب، ولو كملت لنا هذه الأداة، لاستطعنا أن نُحقق الأمل الذى كان يحلم به ليبنتز، وهو أن نتناول مشكلاتنا من هذه الزاوية الرياضية، بحيث يعود الاختلاف فى الرأى أمرًا ينحسم بالحساب، لا نقاشًا حول ألفاظٍ غامضة المدلول لا ينتهى إلى نتيجة، ولو امتدَّ خلال القرون.
وثانى الجوانب التى تُقرِّب "رسل" من عقلى ومن قلبى، هو هذا الدفاع الحارُّ الذى ينهض به فى سبيل حرية الفرد من كل طغيان: طغيان التقاليد الاجتماعية، وطغيان الحكومات؛ فإنى لأُوشك أن أرى الصدق كل الصدق فى دعوى "رسل" بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلَّها — فى أرجاء العالم أجمع، وعلى اختلاف العصور — مؤامرة كبرى يُراد بها الحدُّ من حرية الفرد التى كان ينبغى أن تكون هى الأساسَ وهى المدارَ لكل نظامٍ فى اجتماعٍ أو سياسة. وإن شئتَ فانظر فى أى بلدٍ من بلاد العالم إلى ما يُسمُّونه "التربية" تجدها تسابقًا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال "التربية" يسألون: ما الغايةُ من التربية؟ ثم يُجيبون: هى إنتاج "المواطن الصالح"، وصلاحية المواطن هى دائمًا — كما يُنبِّهنا "رسل" — الموافقة على النظُم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى "الصلاحية" هو الثورةَ على تلك النظم، وإنه لمن عجبٍ — كما يقول فيلسوفنا — "أنه بينما تستهدف الحكوماتُ جميعًا إخراج رجال من طرازٍ يُؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضى هم على وجه الدِّقة رجالٌ من نفس الطِّراز الذى تُحاول الحكوماتُ أن تمنع ظهوره فى الحاضر … فالأمم الغربية جميعًا تُمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان — يقينًا — موضعَ رِيبة من رجال البوليس السرى فى إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسيةُ الأمريكية على أساس نُفوره من حمل السلاح".
وثالثُ الجوانب التى تُقرب هذا الفيلسوف من نفسى: هو هذه الفرحة الكبيرة التى يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقادٍ كان يظنُّه الناس بديهيةً لا تحتمل الشكَّ والجدل؛ انظر مثلًا كيف ترنُّ عبارته بالنشوة، وهو يُثبت أن الجزء ليس حتمًا أصغرَ من الكلِّ الذى يحتويه؛ فالنقطُ التى فى جزءٍ من خط مستقيمٍ مساويةٌ للنقط فى الخط كله؛ لأن كِلتَيهما لانهائيةُ العدد، والأعداد الفردية وحدها مساويةٌ للأعداد كلِّها من فرديةٍ وزوجيةٍ معًا؛ لأنك لو وضعت سلسلةَ الأعداد كلها فى صف، ثم وضعت الأعداد الفردية وحدها فى صفٍّ تحته، استطعتَ أن تجد لكل عددٍ من السلسلة الأولى عددًا يُقابله من السلسلة الثانية … ومثلُ هذه الفرحة أفرحها كلما تبيَّن لى وجهُ الخطأ فيما يُسلِّم به الناس تسليمًا أعمى.