نواصل قراءة مشروع المفكر الكبير زكى نجيب محمود، أبرز مفكرى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "تجديد الفكر العربى".
يقول زكى نجيب محمود فى تقديم الكتاب:
لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات فى معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربى على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبى — قديم أو جديد — حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنسانى الذى لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تُفتح على غيره لتراه. ولبثتْ هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعوامًا بعد أعوام: الفكر الأوروبى دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبى تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبى مَسْلاته كلما أراد التسلية فى أوقات الفراغ. وكانت أسماء الأعلام والمذاهب فى التراث العربى لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهى طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته فى أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو فى أنضج سنيه بأن مشكلة المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ليست هى كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغى لنا أن نزيد، إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذٍ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رصت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت ترص بالمئين، لكن لا، ليست هذه هى المشكلة وإنَّما المشكلة على الحقيقة هى كيف نُوائم بين ذلك الفكر الوافد الذى بغيره يفلت مِنَّا عصرنا أو نفلت منه وبين تراثنا الذى بغيره تفلت مِنَّا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنَّه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل فى تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا، فنقول: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبى العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟
استيقظ صاحبنا — كاتب هذه الصفحات — بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه، فطفق فى بضعة الأعوام الأخيرة، التى قد لا تزيد على السَّبعة أو الثَّمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان، كأنه سائح مر بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له من خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يُلقى بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل. هكذا أخذ صاحبنا — وما يزال — يعب صحائف التراث عبًّا سريعًا، والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة؟
وفى هذا الكتاب محاولات للإجابة، ربما أصابت هنا وأخطأت هناك، فلعل القارئ أن يفيد بالصَّواب وأن يعفوَ عن الخطأ، لا سيَّما إذا وجده خطأ من شأنه أن يُثير الحوار النافع، حتى ننتهى معًا إلى ما يُرضى ويريح.