تمر اليوم ذكرى دخول هولاكو التترى إلى بغداد عاصمة الدولة الإسلامية التى سقطت فى سنة 656 بعد حصار دامى واستباحة مريرة راح ضحيتها الآلاف.
يقول كتاب "بغداد مدينة السلام" لـ طه الراوى، والذى صدر فى سنة 1945، فى فصل تحت عنوان "العهد الهولاكى (656–740).
المغول جيل من الترك يقطنون فى بلاد تركستان، وقد نشأت بينهم وبين التتر — وهم من الترك أيضًا — حروب طاحنة، فنشأ فى ظلِّ هذه الحروب رجلٌ من المغول يُقال له تموجين، عُرِفَ بعد ذلك باسم جنكيز خان، فنظم تموجين أمر المغول وأعدهم للفتح والتغلب، ولما حضرته الوفاة سنة 624 أوصى بتقسيم مملكته بين أبنائه الأربعة؛ وهم: جوجى، وجغطاى، وأوكداى، وتُولى.
وكان يقدر لهم أن يملكوا الدنيا، فكانت من حصة ولده تُولى خراسان وما يُؤمَّل الاستيلاء عليه من ديار بكر والعراقيين إلى منتهى حوافر خيول المغول، وكانت حدود مملكته تتاخم العراق، ولما تُوفِّى سنة 654 خلفه فى مملكته ابنُه هولاكو خان الملقب بإيلخان، ولذلك تُسمَّى دولته بالإيلخانية.
وفى سنة 656 نزل هولاكو على بغداد وحاصرها، فكانت حروب، وكانت خطوب، اندلعت فى أثنائها نيران فِتَن داخلية، انتهت باستيلاء التتر عليها وبقتل الخليفة المستعصم وأولاده ورجال حاشيته وأهل بطانته، وباستباحة بغداد مدة طويلة، ولم يسلم من الناس إلا من قدر على الاختفاء بمواطن لم تصل إليها عيون المغول، وكانت بغداد حين حاصرها القومُ غاصة بأهل الأطراف من الذين أجفلوا أمام الجيش المغولى ظنًّا منهم أن العاصمة تعصمهم، فكانوا فيها لحمًا لسيوف المغول الذين لم يرحموا شيخًا ولا طفلًا ولا امرأةً، وبهذا أَفَلَتْ شمسُ الخلافة العباسية فى بغداد بعد أن أَشْرَقَت عليها أكثر من خمسة قرون، وكان أفولها كارثة على الأمم الإسلامية كافة والعرب خاصة، بل على الشرق كله، بل على المدنية والحضارة، لأن المغول لم يكونوا يحملون يومذاك قلوبًا تنبض بالرحمة ولا رؤوسًا تعقل للمدنية معنًى، وكان كل ما يتميز به أوَّلوهم أنهم لا يُفرِّقون بين دين ودين ولا بين مذهب ومذهب؛ فكل الأديان والمذاهب لديهم متساوية، وقد نجم عن ذلك أنهم سلَّطوا بعض رجال الأقليات المتميزين ببعض المواهب على حكم الأكثريات مما لا عهد للبغداديين به من قبل، وأبقى هولاكو فى أوَّلِ الأمر الأوضاع الإدارية فى بغداد على النمط العباسى تقريبًا مع اختصار فى بعضها، وأبقى أكثر المناصب الإدارية بِيَدِ الموظفين السابقين من العراقيين؛ ليستَفِيدَ من خبرتهم وسابقِ تجاربهم فى جباية الضرائب والمكوس وتنظيم الأعمال، ورتَّبَ من قبله جماعة من الرقباء والأمناء ليشرفوا على كل شىء، وبذلك أصبحت حكومة بغداد مدنية تحت إشراف حكومة عسكرية.
على أن هولاكو لم يلبث أن حوَّل نظره عن الموظفين العراقيين إلى موظفين من الإيرانيين، فعَهِدَ بمنصب الوزارة فى بغداد إلى علاء الدين الجوينى سنة 657، وكذلك عَهِد بكثيرٍ من المناصب الأخرى ببغداد إلى رجال من أهل فارس، وبذلك خسر العراقيون مكانَتَهُم التى كانوا يحتلونها فى الدولة، كما خسروا عزتهم وحريتهم، ولكن بغداد لم تخرج عن كونها حاضرة لمدن العراق العربى.
وتعاقب على الحكم فيها من رجال الدولة الإيلخانية ثلاثة عشر ملكًا وملكة واحدة هى "صاتى خان" التى حكمت بغداد سنة 739.
وأول من أسلم من ملوك هذه الأسرة أحمد بن هولاكو، وكان اسمه قبل إسلامه "توكدار"، وقد تمرَّدَ عليه ابن أخيه أرغون، واستولى على بغداد، فأرهق أهلها عسرًا وأوسعهم ظلمًا، ثم تمكَّن من التغلب على عمه والاستيلاء على ملكه، وفى عهدهم ضُرِبَت الأوراق النقدية المعروفة ﺑ "جاو"، فحدثت فى بلادهم أزمة نقدية اهتزت لها أركان الحالة الاقتصادية، ولكن بغداد سَلمَتْ من شرِّ هذه الأزمة.
وفى سنة 694 أسلم جازان بن أرغون أحد أحفاد هولاكو، وكان لإسلامه رنة استحسان فى بلاد الإسلام ولا سيما فى بلاد فارس، وكان متزوجًا بعدد من نساء أبيه على طريقة المغول، وكان شديد الحب لواحدة منهن يُقال لها "بلغان خاتون"، فقيل له: إنَّ الإسلام يحرم نكاح زوجات الأب، فهمَّ بالردة، ولكن أحد العلماء أفتاه بصحة ذلك، وقال له: "إنَّ أباك كان على الكفر ولم يكن زواجه شرعيًّا؛ فلا يمنعك مانع من أن تعقد أنت عليها الآن"، فسكن قلب غازان إلى هذه الفتوى وبقى على الإسلام، ومنذ ذلك الحين فشا الإسلام فى المغول، وزار غازان هذا بغدادَ عدة مرات، فشمل أهلها بلطف لا عهد لهم به من أسلافه، وهو الذى أمر بضرب الدراهم والدنانير على مقاييس معينة ليتعامل الناس بها عدًّا لا وزنًا، وأمر بتوحيد المكاييل والموازين والأطوال. ويقرن بعضُ المؤرخين اسم غازان باسم محمود، ولعله اختار لنفسه هذا الاسم بعد إسلامه.
وفى 718 حدث غلاء فى بغداد، اضطر معه الناس إلى أكل الجيف، وباع الفقراء أولادهم ليسدوا رمقهم بأثمانهم.
وفى سنة 739 استولت الأميرة "صاتى" بنت خدابنده على الملك، وهى أول مرة تكون فيها بغداد خاضعة لمملكة تملكها امرأة، وخطب لها على المنابر فى بغداد وغيرها.