نواصل إلقاء الضوء على كتب المفكر المصرى الكبير زكى نجيب محمود "1905-1993" أحد أبرز المفكرين العرب فى القرن العشرين، ونتوقف مع كتابه "قصة نفس".
يقول زكى نجيب محمود في مقدمة الكتاب:
صدرت "قصة نفس" فى طبعتها الأولى سنة 1965، وكان الكاتب قد بناها على مبدأ فنى ارتآه لنفسه إذ ذاك، وهو أن يروى قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر، بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية، فتلك الأحداث الخارجية على مرأًى من الناس ومسمع، وأمَّا التأثُّرات الداخلية التى استثارتها تلك الأحداث فى دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرةٍ نافذةٍ إلى العمق.
لكن لمَّا كان جزءٌ كبير من خلجات النفس فى استجابتها للظروف والعوامل المحيطة بها، هو مما يودُّ صاحب تلك النفس أن يُخفيه عن الناس؛ فقد اضطر الكاتب إلى اللجوء إلى الرمز؛ فلا الأشخاص يَذْكرهم على حقائقهم وأسمائهم، ولا الأحداث نفسها يصوِّرها دائمًا كما وقعت بالفعل.
غير أنَّه - أعنى الكاتب - كان كلما أحس أنَّ الرمز قد تكثَّف حتى كاد يفقد شفافيته ودلالته، تعمَّد أن يُلقى فى سياق الحديث اسمًا ما أو حادثةً معيَّنة بحقيقتها التاريخية الصحيحة، بُغيةَ أن يشدَّ القارئ من عالم الوهم إلى دنيا الواقع.
وبعد أن صدرت "قصة نفس" وأصبحت فى أيدى القراء، وتحوَّل كاتبها نفسه إلى قارئ لها، بل إلى قارئ ناقد، لقيتْ إعجابًا من جمهور القراء؛ ربما لما كان فيها من تفرُّد فى البناء والصياغة؛ إلا كاتبها، فقد لمح فيها أوجُه نقصٍ، حين طالَعها بعين الناقد؛ إذ خُيِّلَ إليه أن الوحدة الفنية فيها لا تخلو من تفكُّك، كما خُيِّلَ إليه كذلك أن انتقالها من خفاء الرموز إلى صراحة العلانية، كثيرًا ما جاء انتقالًا مفاجئًا يُحدِث ما يُشبِه الصدمة عند القارئ، ذلك فضلًا عن استرسال القصة فى ذكر جوانب من تلك النفس لم يكن ينبغى لها أن تجاوز محابسها لتصبح طليقةً فى الهواء أمام الأبصار.
من أجل هذا، تردَّد الكاتب فى أن يُعيد طبع الكتاب، برغم إلحاح الأصدقاء؛ حتى إذا ما أوشكت عشرون عامًا أن تنقضى على نشر الطبعة الأولى، وهى فترة لم يكن الكاتب عندما روى قصة تلك النفس أول مرة، يتصور أنها بقيت أمامها لتحياها ولتمتلئ خلالها بخبرات جديدة وخلجات وارتعاشات.
وطُلب من الكاتب أن يقدِّم كتابه للنشر فى طبعةٍ ثانية، صادف الطلب - هذه المرة - هوًى عنده، إلا أنه همَّ بما يوشك أن يكون تأليفًا جديدًا؛ فقد حُذفت من الطبعة الأولى فصول، وأُضيفت إليها فصول، وأُدخلت على ما بقى من فصولها تعديلاتٌ كثيرة؛ أملًا فى أن تجيء صورتها الجديدة خلوًا مما بدا لكاتبها أنه عيوب شاهت بها صورتها الأولى.