توجد فى التاريخ الإسلامى أحداث كثيرة لم تأخذ حقها من التاريخ، وهذا أمر طبيعى، فليس كل الأحداث على درجة واحدة، ومن الأحداث غير المشهورة "سرية سيف البحر".. فما الذى يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثيرا تحت عنوان "سرية أبى عبيدة إلى سيف البحر"
قال الإمام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال: بعث رسول الله ﷺ بعثا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلثمائة.
قال جابر: وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع كله فكان مزودى تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فنى ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة.
قال: فقلت: وما تغنى تمرة؟
فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.
قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الضرب، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثمانى عشر ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما.
أخرجاه فى الصحيحين من حديث مالك بنحوه.
وهو فى الصحيحين أيضا: من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بعثنا رسول الله ﷺ فى ثلثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة ابن الجراح نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمى ذلك الجيش جيش الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، فنهاه أبو عبيدة.
قال: وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت.
ثم ذكر قصة الضلع، فقوله فى الحديث: نرصد عيرا لقريش دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، والله أعلم.
والرجل الذى نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضى الله عنهما.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن إسحاق، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة - وهو زهير بن معاوية - عن أبى الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله ﷺ وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟
قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله.
قال: فانطلقنا إلى ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه، فإذا به دابة تدعى العنبر.
فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله ﷺ وفى سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا.
قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور - أو كقدر الثور - ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم فى عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق.
فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا؟».
قال: فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ فأكل منه.
ورواه مسلم: عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو داود، عن النفيلى ثلاثتهم، عن أبى خيثمة - زهير بن معاوية الجعفى الكوفى - عن أبى الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس المكى - عن جابر بن عبد الله الأنصارى به.
قلت: ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعا للحافظ البيهقى رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح والله أعلم.
وقد ذكر البخارى بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، فقال: حدثنا عمرو بن محمد، ثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، ثنا أبو ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول:
بعثنا رسول الله ﷺ إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناهم قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري، وطعنته برمحى حتى قتلته.
فلما قدمنا بلغ النبى ﷺ فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟».
قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف.
ثم روى البخاري: من حديث يزيد بن أبى عبيدة، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضى الله عنهما.
ثم ذكر الحافظ البيهقى ها هنا موت النجاشى صاحب الحبشة على الإسلام، ونعى رسول الله ﷺ له إلى المسلمين وصلاته عليه.
فروى: من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة: أن رسول الله ﷺ نعى إلى الناس النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة بنحوه.
وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: "مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة".
وقد تقدمت هذه الأحاديث أيضا والكلام عليها، ولله الحمد.
قلت: والظاهر أن موت النجاشى كان قبل الفتح بكثير، فإن فى صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشى وليس هو بالمسلم، وزعم آخرون كالواقدى أنه هو، والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقي، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبى ﷺ أم سلمة قال: "قد أهديت إلى النجاشى أواق من مسك وحلة، وإنى لأراه قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد علي، فإن ردت على - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهى لك".
قال: فكان كما قال رسول الله ﷺ، مات النجاشى وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة، والله أعلم.