نلقى الضوء على كتاب "كن أنت" من تأليف الدكتور إيهاب حمارنة، والذى ينطلق متن فكرة أن الجميع تقريبًا يسعى فى الحياة للوصول إلى ذواتهم الحقيقية، فكل منا يبحث عن ذاته وهويته ويهدف فى النهاية إلى تنميتها وتطويرها لتواكب تقلبات الحياة، ويبدو أن هذه الرحلة لا بد أن تبدأ داخليًا فى المقام الأول، ثم بعد ذلك تتجلى ملامحها فى الخارج.
والكتاب الذى بين يدينا لا يقدم بعض النصائح التنموية والنظرية فقط، بل إنه مرشد عملى يعينك على رحلتك الداخلية هذه، لتصل إلى ذاتك الحقيقية، ولا يهدف المؤلف لتقديم جرعة تحفيزية فقط، بل إنه يخوض معك الرحلة كاملة، ويعتمد على المزج بين الروح والعمل، ويقدم لك الكثير من القصص والتعاليم الخاصة بالوعى.
يقول الكتاب تحت عنوان "الأنظمة المحرِّكة":
ربما أنت من حالى، قيل لك فى المدرسة إنّك لست بكاف، وقد تكرّرت هذه الرسالة، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، على أَلْسن المعلمين والأهل والأصدقاء، وحتى لوحات الإعلانات، فكلها تقصّ الرسالة المحورِيّة ذاتها، وهى أنّ عليك أن تجاهد لتصبح شخصًا آخر، شخصًا مختلفًا عن معدنك الأصيل، فأنت كما أنت لستَ كافيًا. والوعد أنّك فى نهاية هذا الجهاد البائس، ستجد بوّابة الاكتفاء، ولكن إلى متى؟ ألم تتعب؟ أنا شخصيًّا تَعِبت، وأرهقت من ثقل هذا الزيف.
لذلك سيستنفر الكتاب كلّ قُواه وأساليبه المخبَّأة، ليُسقط عَنْك غَثَّ هذه الرسالة اللعينة، حتى يراك صادقًا مع ذاتك، وما أحلاه من شعور أن تَعِى فى يَقَظتك، وحلمك أنك صادق مع ذاتك! وفى هذا الصِّدق الرجوع إلى روح الطفولة، فنحن عندما نولد لا نسعى أن نقلّد أسلوب أى شخصٍ كان، علّهم يَرَون فينا الكِفاية، فنحن نَضْحَك ونَمْرَح ونتقافزعلى سجيَّتنا، فهل من الممكن أن تكون هذه السجيَّة التى أهملناها هى نفسها عبقريتنا الكامنة؟ وهل من الممكن أنَّ هذه العبقرية ما زالت متوهجة خَلْف إحساس "أنا لست كافيًا"؟ .
وأنا أقول هذا من خبرتى الشخصيّة، فأنا أَعِى تمامًا إحساس النقص، ومعاناته الحتمية، ليس فقط لأنّى صَدَّقته فى كل حياتى (وأجزاء منِّى تُصَدِّقه حتى هذه اللحظة)، ولكن أيضًا لأنى كُنْتُ أُصْدَم عندما أمشى فى خطِّ أى مُقيِّد فكري، لِأَصِل دائمًا إلى النتيجة ذاتها: أن فى عمق كل المقيِّدات الإنسانيّة، يعلو الصوت الصارخ، ليقول: أنتَ غير كافٍ. وفى جوهر هذا الصوت فكرة تقول: "أنتَ كما أنت الآن غَيرُ مَحْبوب"، وهذا يعادل إحساس الموت فى السيكولوجية الإنسانيّة؛ لذلك يقال إن الحب يُحْيِى.
وإذا تعمَّقنا أكثر، سنجد الغضب مغلِّفًا لهذا الصوت، ولكن الغضب مِمَّن؟ إنه الغضب من مصدر الحياة ذاتها، ولك أن تسمّيها ما يميل له فؤادك (الله، الوجود، الخالق، المصدر، الحياة، الكون، القوّة العليا…)، نلومها كلّ دقيقة على فعلتها الشنيعة، فكيف لم تخلقينى كافيًا؟ كيف لم تخلقينى محبوبًا؟ وهل هذا نوع من الخطأ التكويني؟ وكيف لك أن تعذّبينى بغلطتك المريرة؟ ومهما ادّعَيتَ أنّ إيمانك راسخ، فتلك الملامة المبطّنة تلازم الإنسان منذ الأزل.
ولكن بغضِّ النظر عمّا يصوّره الذهن على أنه خطأ تكويني، وبغضِّ النظر عن ظنّنا الواهم بأنّنا لسنا كفاية، فنحن الاكتفاء بعينه، نحن الحب بذاته، وكافّة أشكال الحياة قد خلقت من رحم هذا الحبّ الطاهر. ولكن إن كانت الحال كذلك -وهى كذلك!- فكيف لِصَوْت "أنا لست كفاية" أن يُولَد ويَعْلو، ليتحوَّلَ إلى النظام المستبدّ فى ذهن الإنسانيّة؟
للإجابة على هذا السؤال، دعنا نأخذك إلى رحلة وجوديّة، علّها تكشف لك شيئًا من المستور، وتقدم لك التفسير الناجع لما حدث.
فتخيَّلْ معى للحظة وجودًا كاملًا من دون أى حدود.
وجودًا خالدًا ليس له بداية ولا نهاية.
قبل البدء لم يكن إلَّا هذا: وجود خالد وغير محدود، وفى قلبه تقطن الرغبة بأن يستشعر الوجود ذاته، وهنا بدأت عمليّة الخلق، كوسيلة للإثراء ومشاركة التنوير، فالخلق هو أرفع درجات الإثراء. فى عمليّة الخلق انبثقت تعابير الحياة المتنوعة، ومنها أنت، فالتعبير شهوة كونيّة، تتجلَّى فيها روح الحياة الواحدة من خلال أشكال، ومتضادّات كثيرة، تلتقى كلها فى متَّسع الرحمة الحاضنة.
ولكن هنا تكمن المشكلة!
وما هى المشكلة؟!
فكى يُعَبِّر الوجود عن ذاته، يجب أن يحصل الضغط، فماذا نعنى بذلك؟
الضغط هو أساس عمليّة التعبير، فإن تتبعت أصل كلمة التعبير، ستجدها تعنى "أن تضغط"، وكأن فِعْل التعبير، هو المحاولة لإخراج عصارة الشيء بالضغط. وللتقريب، فَكِّر بآخر مرّة عَصَرْتَ فيها برتقالة، أو فاكهة استوائية لذيذة، ألم تَحدُث عمليّة ضغط لاستخراج العصارة؟