نواصل إلقاء الضوء على كتابات الكاتب المصرى الشهير أحمد أمين (1886- 1954) الذى يعد من الفاعلين الأساسيين فى الثقافة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "الشرق والغرب".
مقدمة الكتاب:
فى عام 1947 دعيت للاشتراك فى مؤتمر المائدة المستديرة الذى عقد فى لندن لبحث مشكلة فلسطين، وكان لزيارتى لأوروبا ذلك العام أثر كبير فى تحديد مشاعرى نحو الغرب، وأخذت أشك فى صحة الاعتقاد السائد بتقدم الغرب على الشرق فى مضمار الحضارة.
لمست نوعًا من الأخلاق والعادات والتقاليد يخالف ما لمسته فى بلادنا، وشاهدت منظمات وصناعة وإنتاجًا لا عهد لبلادنا به، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتزاحم فى رأسى مئات من الأسئلة التى أردت أن أدرسها لأجيب لنفسى عنها وللآخرين.
فمثلًا: هل الحضارة الأوروبية نتيجة لروح الأوروبيين؟ أو أن روح الأوروبيين هى نتاج الحضارة الأوروبية؟ أو بمعنى آخر: هل الصناعة مثلًا — وهى من أهم دعائم الحضارة الأوروبية — كانت نتيجة للرغبة فى مقاومة الطبيعة، تلك الرغبة التى يتميز بها الأوروبيون، أم أن روح مقاومة الطبيعة والتعالى عليها نشأت نتيجة لقيام الصناعة؟ وهل قيام الصناعة بهذا الشكل واصطباغها بالصبغة الأوتوماتيكية كان نتيجة لأوتوماتيكية الأوروبيين، أو أن هذه الأوتوماتيكية كانت نتيجة لا مفر منها لقيام الصناعة وانتشارها على هذا النحو الواسع؟ وهل كان اتجاه الصناعة وغير الصناعة نحو الإنتاج الحربى وانتشار الحروب وروح البغضاء بين الدول، هل كان هذا نتيجة للحالة الاقتصادية والسياسية التى تسببت فى قيامها الصناعة الحديثة والعلم الحديث، أم أن هذا الاتجاه الحربى وهذه الحالة الاقتصادية والسياسية نتيجة لروح حب الكفاح التى يتميز بها الأوروبيون ونتيجة للأحقاد التى نشئوا عليها؟
وهذه المبادئ السياسية التى حددتها أوروبا ورسمت صورتها، وهذه النظم الاقتصادية والاجتماعية من ديكتاتورية وديمقراطية وشيوعية، هل هى نتيجة التعليم الحديث والصناعة الحديثة، وكل حديث أتت به الحضارة الأوروبية؟ أم أنها لاعلاقة لها بالعلم ولا بالصناعة وإنما جاءت بهذه الصورة لأنها هى صورة الأوروبيين أنفسهم؟
ثم هذه العلاقة بين الرجل الأوروبى والمرأة الأوروبية، وبينهما وبين أولادهما، وهذه العلاقة بين صاحب العمل والعامل، وبين الحاكم والمحكومين، هل كانت هذه العلاقات شيئًا جديدًا على أوروبا أتت به نظم الحياة الجديدة ودعا إليه فلاسفتها ومفكروها الحديثون حتى تحقق على يد المرأة والأولاد أو على يد النقابات والأحزاب؟ أم أنها علاقات قديمة أقامتها ضرورة الطبيعة فى أوروبا فكانت قسوة المناخ وبرودة الجو وطبيعة الأرض الصلبة الفقيرة هى التى أدت إلى هذا النوع من التعاون بين الرجل والمرأة والأولاد، وبين الحاكم والمحكوم، ثم أدى هذا النوع من التعاون إلى هذه العلاقات التى نراها الآن بينهم؟
هذه أسئلة على جانب كبير من الأهمية، والبحث فيها والإجابة عليها يساعدنا كثيرًا فى الإجابة على أسئلة تتعلق بحضارة الشرق الجديدة:
أولًا: هذه الحياة الجديدة وهذا النوع من التفكير والأنظمة التى جاءت بها الحضارة الأوروبية، إلى أى حد تتصل بتقدم الإنسانية؟
ثانيًا: هذه الأنظمة فى الحضارة الأوروبية المتصلة بتقدم الإنسانية، إلى أى حد ترتبط بخصائص الغربيين وروحهم؟ وإلى أى حد يرتبط بخصائص الشرقيين وروحهم؟
ثالثًا: هل يستطيع الشرق أن يقوم بحضارته الجديدة من غير أن يتقيد مطلقًا بما وصل إليه الغرب؟
أم هل من الضرورى عليه أن يكمل من حيث انتهى الغرب؟ وهل يستطيع ذلك؟
هذه الأسئلة جميعها تضاربت فى ذهنى فترة طويلة من الزمن حتى رأيت أن أضع هذا الكتاب الصغير، محاولًا الإجابة عنها، والمساهمة فى إنارة الطريق الذى يسير فيه الشرق الآن نحو حضارة جديدة.