نوقن ونتوهم، ننسالُ ونتجمد، نراوحُ ونتثابت، نتشبثُ ونفنى.. وأنىّ لنا مغادرةُ هذا الغلافِ الضبابى الأخاذ الذى نتلمسُ فيه سبيلنا بالبصيرةِ لا البصر!.
هنا شجرةُ العابدِ التى اختُزلت فيها أرضٌ وسماء، إنسٌ وجان، خيرٌ وشر، وقائعُ وعجائب، زهدٌ ورغبة، وصالٌ وانقطاع
لى أن أنحازَ إلى "شجرةِ العابد"، وأجعلُ من وقائعها وأحداثها ظِلاً لتجلياتها الأسطورية.. ولى أن أعكسَ هذه المعادلة، فلا يختلفُ الأمرُ.. فالغيبُ غالبٌ لو أمعنّا النظر، والعقلُ عاجزٌ عن التفسيرِ منذ الفلاسفةِ الأولين. لعل شجرةَ العابدِ هى الخلاصُ، حين تبوحُ قائلةً: قفوا أمامى غارقين حتى آذانكم فى العجب!.
ربما تركت روايةُ شجرةِ العابدِ قارئهَا مُتحيراً فى تفكيكِ رمزيتها أو سبرِ أغوارِ جوهرِها، وربما تعددت التفسيراتُ بتعددِ الذينَ هاموا فى مدى هذه الروايةِ المتفردة التى لا نلحظُ فى سردِها أثراً لفجوةٍ بين الغرائبى الاسطورى، وبين الواقعى المكانى والتاريخى، فنقاءُ اللغة الشاعرة يغلف كليهما، ونبضُ إيقاعِ الفيضِ الصوفى، هو المُهيمنُ على بناءِ العمل.
شجرة العابد تستدعى فى تفاصيلها نورانيةَ التصوف، وسموَ القيم الإنسانية، والترفعَ عن الذات والملذات، وعجائبَ الجنِّ، وكراماتِ الأصفياء من أولياء الله، أما ثنائيةُالأسطورةِ والواقعِ فى شجرةِ العابد، فهى ثنائيةٌ تتواحدُ وتتواشجُ فى بناءٍ شديدِ التماسُك، وفى انتقال ناعم من سِنةِ الخيال إلى سطوعِ الواقع، فالحقيقى يتلفعُ بوقائع غرائبية تلامسُ حافةَ الأسطورة، والأسطورى ينسابُ فى سردٍ حيادى لا يقبل الجدل، وبينهما تنجلى الرؤى العميقة التى تفتحُ أفقاً رحباً على تساؤلاتِ الوجودِ والإنسان.
إنه عالم باهرٌ عميقُ الرؤى، ينبجس فى الروح، وينغمر فى جَمالٍ مُطلقٍ لا حدود له، ويتشاكلُ فى تفاصيلَ تحضُّ على الانعتاقِ من جاذبيةِ الشقاءِ الأرضى ويومياتِ الكَدِّ والسعى، عبر براعة الوصف المتألق الكاشف المفعمِ بدفءٍ عجيب يتنفس فى مُخيلة القاريء ووجدانه ، فيعرجُ بنا من وعى تاريخى، إلى باطنٍ أسطورى سائل، لا ندرى إلى أى عالمٍ سحرى سيأخذنا، وذلك دونَ أن يخدشَ انسياباً أو يخمِشَ تداعياً.. فهو يُقيمُ عالماً حِسياً نشمُّ فيه رائحةَ التُرابِ المبلل.. وعالماً سماوياً نرى فيه شجرة الجن أو شجرة السماء، التى هى أم الشجرةِ المُباركةِ على الأرض، ونتشوفُ لتذوقِ ثمارِها،، ولو أجدنا الإنصات، لاستمعنا إلى أنشودةِ الطيورِ الخُضر، فكأنّى بهِ يصفُ الجنةَ التى "ما لا عينُ رأت"..أو كأنما اطَّلعَ على قبسٍ نورنى من عالمِ الخلود، تجلّى فى مقولةِ نمار: حين يموتُ الإنسان تتهتكُ أمام عينيهِ وعقلهِ كلُّ الحُجُب، ينكشفُ له كلُّ عالمِ الغيب، ووقتها يدركُ موقعهُ فى الكونِ الفسيح، ويحطُّ عن نفسهِ كلُّ الغرور الذى أصابه طيلة عمرهِ المديد.
شجرة العارف تشيرُ إلى قوةِ مُخيلةِ مُبدعِها الدكتور عمار على حسن، ومكوثهِ المتأملِ على التاريخ والتراث، وقدرته على الادهاش عبر سرد عذبٍ يجرى كالنهر الرائق، ناهيكَ عن اشراقاتهِ الخاطفةِ الأخاذة التى تجسدت فى عاكف ونمار والحاج حسين والشيخ القناوى والهداهدِ والغربانِ والنحلِ والنملِ والفراشاتِ والجنيّات.. اشراقاته الروحية التى تعتصرُ الشجونَ إلى آخرِ قطرة، ولا تترك فراغاً فى تيار السرد، دون أن تخط عليه رسومها أو تعاويذها التى تتقمصُ ماءَ اللغةِ الصافية.. وإذا كانت اللغةُ فى إحدى مستوياتها الخطابية تأخذ صفة القداسة، فشجرةُ العابدِ تبوحُ بلغةٍ تلتبسُ بالمقدس، وترفلُ فى توشيحاتٍ جماليةٍ عذبةٍ وشرقيةِ البَوح، فالصياغةُ الموشاةُ بحلّى المَجازات والرموزِ والإشارات، حاضرةٌ فى هذه الثنائيةِ التى يفصلُ بينها خيطٌ رفيع،، لعله خيطٌ من ضوءِ القمرِ الذى طالما داعبَ أمسياتِ عاكف..
وليس غريباً على اللغةِ الرهيفةِ التى اعتمدتها شجرة العارف، أن تسطعَ بعضُ أيقوناتها "موزونةَ الموسيقى" على أوزان الشِعر الخليلية، ومنها مثالاً لا حصراً : "نحن نرى ولا نُرى.. ونغيبُ فى الثرى.. ولا يموتُ كهلُنا.. حتى يعودَ شابا"، والتى جاءَت على بحرِ الرجز.
وليس غريباً على مأخوذٍ مثلى بشجرةِ العارف، أن استعيرَ أحوالَها، حيث أشمُ رائحتها الطيبةَ كلما تصفحتها أو جالت بخاطرى، ولى أن اشيرَ كما أشار "الحاج حسين" إلى الشجرةِ التى لا تُرى إلا بالبصيرةِ، صارخا: إنها هناك!.