استقرت الدولة الإسلامية فى المدينة، ولكن المنافقين لم يستقروا، فقد راحوا يبحثون عما يقلق هذه الأمة التى بدأت فى البحث عن مكانة لها وسط العالم، لذا فكروا فى بناء مسجد يكون "مسجدا ضرارا"، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "قصة مسجد الضرار":
قال الله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}. [التوبة: 106 - 110] .
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله ﷺ بخرابه، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلى لهم رسول الله ﷺ فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله ﷺ من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك.
فلما رجع منها فنزل بذى أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحى فى شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل} الآية.
أما قوله: {ضرارا} فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء.
{وكفرا} بالله لا للإيمان به.
{وتفريقا} للجماعة عن مسجد قباء.
{وإرصادا} لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام، فأبى عليه، ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاءوا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله ﷺ وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد فى الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبى عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى: {وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}.
ثم قال: { وليحلفن } أي: الذين بنوه.
{إن أردنا إلا الحسنى} أي: إنما أردنا ببنائه الخير.
قال الله تعالى: {والله يشهد إنهم لكاذبون }.
ثم قال الله تعالى إلى رسوله: { لا تقم فيه أبدا }.
فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه على القيام فى المسجد الذى أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة فى الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.
وما ثبت فى صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله ﷺ لا ينافى ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد الرسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت فى الفضل منه وأقوى.
والمقصود أن رسول الله ﷺ لما نزل بذى أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدى - أو أخاه عاصم بن عدى رضى الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.