"العالم متحرك، والعلم والأدب نتيجة هذا التحرك" كانت هذه العبارة هى المحور الرئيسى لكتاب "مقدمة لدراسة بلاغة العرب" للدكتور أحمد ضيف، يحرك المؤلف طبقا له بوصلة الدارس للغة العربية لتشير إلى طرقٍ جديدة عصرية، شغل الأدباء والنقاد العرب فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بإعادة النظر فى طُرق دراسة الأدب العربى، وتطبيقِ الأساليب البلاغية التقليدية على اللغة المعاصرة مكتوبة ومحكية، مهمومين بالحفاظ على اللغة العربية فى مصاف اللغات الحية، مستوعبة متغيرات العصر ومفرداته الجديدة التى أفرزتها الثوراتُ العلمية والفكرية والمادية.
وبحسب الكتاب فأن البلاغة أو الكلام البليغ فن من الفنون الجميلة الفطرية للإنسان، لأنه مدفوع بطبيعة الحاجة إلى التفاهم، وسائر بفطرته إلى التعبير عما يجول بخاطره من سرور وحزن وآلام ولذة وارتياح، وكل متكلم يرغب فى أن يكون له سلطان على نفوس السامعين، وأن يحملهم على تصديق ما يقول، والإنسان حساس يتأثر بصناعة الكلام، وتفعل فيه براعة المتكلم، وحسن العبارة ما لا ينال منه البرهان والتعقل، والكلام من وسائل الاستيلاء على العقول، وتقابل النفوس بعضها ببعض، ونشر الحقائق والأدلة والبراهين، وبقدر ما تكون براعة المتكلم أو الكاتب فى الوصول إلى إفهام السامع ما يريد، وبلوغه المعنى الذى قصد، يكون كلامه أمتن، وتكون عبارته أبلغ إلى النفس؛ ومن هنا سُمِّى الكلام بليغًا.
والبلاغة إما أن تكون عبارة عن إظهار ما يجول فى نفس الإنسان، من عواطف وإحساسات وخيالات وغيرها، مما يدل على شخصية الكاتب أو المتكلم فحسب، وإما أن تكون صورة غير صورة نفس الكاتب أو الشاعر، أى صورة من الحياة العامة للإنسان أو جزءًا من تاريخ الإنسانية، كما يقولون ـ فالأولى هى البلاغة الوجدانية والثانية هى البلاغة الاجتماعيةـ .
هذا هو التقسيم الفنى فى البلاغة، وهذه هى أنواع البلاغة، وعلى حسب ما تكون البلاغة جزءًا من الحياة العامة لكل إنسان وفى كل زمن، يكون الكلام أثبت، وتكون العبارة أمتع، وتكون الكتابة أبقى وأخلد، لأن البلاغة التى تنال من كل نفس هى التى تبقى، والأفكار التى تجد لها عند كل إنسان أذنًا واعية لا تبلى، وذلك لا يكون إلا إذا صادفت شيئًا عاما ينزل من كل نفس، ويصح أن يقبله كل فكر، ولا يثقل على الطبائع، وهذا هو سبب ارتياح النفوس للحكم والمواعظ، لأنها تنال من كل نفس وتتسرب إلى كل فؤاد، وهو السر فى رأى مَن فضَّل أشعار الحكمة.
ويشير الكتاب إلى أن الأدب عند العرب يشمل كل شيء، أو هو مجموع معلومات الإنسان التى اكتسبها بالقراءة والدرس من علوم عربية كالنحو والصرف، وعلوم البلاغة، والشعر والأمثال، والحكم والتاريخ، وغيرها من فلسفة، وسياسة، واجتماع؛ وحتى جعل ابن قتيبة فى كتابه "أدب الكاتب" من شروط الأديب أن يعرف جملة من الرياضيات والصناعات، وقالوا: الأدب كل ما تأدب به الإنسان، يقصدون بذلك كل ما صح أن يعرف فهو من الألفاظ التى ليست لها معانٍ محدودة، و يطلف على دعوة الطعام، وعلى العادات والأخلاق الكريمة، وعلى التربية والتعليم. قال صاحب تاج العروس: «وإطلاقه على العلوم العربية مُولَّد حدث فى الإسلام.» وقد توسع المسلمون فى هذا اللفظ بسبب اختلاطهم بالعجم، حتى أصبح معنى الأدب جامعًا للعلم والأخلاق والفنون والصنائع وغيرها، فأطلقوه على ضرب العود ولعب الشِّطْرنج، وعلى الطب والهندسة والفروسية، وعلى مجموع علوم العرب، وعلى مقتطفات الحديث والسمر، وما يتلقَّاه الناس فى المجالس.
وأن الكثير من العرب اعتبروا البلاغة صورة للأفكار والعقول وشيئًا من الحياة العقلية والعلمية للأمم، وجزءا كبيرا من تاريخ الإنسان، ورأى بعض كبار الأدباء أن البلاغة كالتاريخ من حيث الاستدلال بها على حياة الشعوب، غير أن التاريخ يدل على الحركة السياسية، والبلاغة تدل على الحركة العقلية والاجتماعية، أو يدل التاريخ على حياة الإنسان العملية والبلاغة على حياته النفسية من فكر وأخلاق وذكاء، وفضيلة ورذيلة، وعلم وجهل وغير ذلك؛ فجعلوا البلاغة من شعر ونثر وسيلة لدرس طبائع الإنسان ومعرفة نفوس الكُتَّاب، وقصر بعض النقاد همه على معرفة حقائق النفوس من أثر الكتابات، وبنى مذهبه فى النقد على ذلك، واستخرج حالة الكاتب النفسية (بسكلوجية) من كتاباته.
ويوضح الكتاب رأينا أن النقد الأدبى فى فرنسا ابتدأ وسار سيرًا تدريجيا، إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، وكانت أطواره ظاهرة ظهورًا تاما، وهو تابع فى طريقه وسيره لقانون الارتقاء، وأنه لم ينبت فى بلاده، ولم ينشأ بين أهله، بل جاء من الاطلاع على كتب اليونان القديمة، وعلى الحركة الأدبية أيام النهضة فى إيطاليا، وأنه أوجد صلة بين النقاد أنفسهم وبين آثارهم فى كتاباتهم.
أما النقد الأدبى عند العرب فهو بعيد عن كل فكرة أجنبية، وعن كل أثر خارجى، وليس الغرض منه تقويم حركة العقول والأفكار، بل شرح الشعر العربى وتقرير طريقة الشعر الجاهلى، لتكون نموذجًا ومنهجًا للشعراء. وقد سار النقاد فى هذا الطريق بعزم صادق، وكلهم أنصار الطريقة العربية الأولى، وساعدهم على بلوغهم ما أرادوا، مزجهم الأدب بالدين؛ فتمكنت الطريقة العربية القديمة وطريقة الخيال والتصور عند العرب من الاستيلاء على أفكار الشعراء والكتاب.