القرآن الكريم، معجزة الله الكلامية، الكتاب الذى عجز أمامه الأدباء والشعراء، ووقفوا عاجزين عن الإتيان بمثله، وأمام جلال كلماته وجمال مفرداته وعظمة بلاغته، الكتب القادر على جذب أذان السامعين وخطف قلوبهم فى تعبيراته البلاغية البديعة، ورغم أن المقصود منه هداية البشر، وليس المبارزة البلاغية، لكن آياته حملت قيما جمالية وصورا بلاغية عديدة، فجاء بأسلوب ونظم بديع يمثل إعجازا ربانيا كبيرا.
فى القرآن العديد من الآيات التى نزلت بلغة جميلة ووجيزة قادرة على التعبير الجمالى والتصوير الفني، ومفردات كثيرة زينها الحسن والإبداع والإتقان، ومن تلك الآيات الجمالية التى جاءت فى القرآن: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّى يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35).
ونعتمد فى قراءتنا للآية وجمالها على ما ورد فى تفسير ابن كثير، حيث ورد أنه فى الحديث الذى رواه محمد بن إسحاق فى السيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى دعائه يوم أذاه أهل الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بى غضبك أو ينزل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ".
وفى الصحيحين، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" الحديث.
وعن ابن مسعود، رضى الله عنه، قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه .
وقوله: (مثل نوره) فى هذا الضمير قولان أحدهما: أنه عائد إلى الله، عز وجل، أي: مثل هداه فى قلب المؤمن، قاله ابن عباس (كمشكاة)، والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذى دل عليه سياق الكلام: تقديره: مثل نور المؤمن الذى فى قلبه، كمشكاة، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وقلب المؤمن فى صفائه فى نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافى المشرق المعتدل، الذى لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله: (كمشكاة): قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل، هذا هو المشهور، ولهذا قال بعده: (فيها مصباح)، وهو الذبالة التى تضيء.
حدثنى عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبى بن كعب ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) قال: مثل المؤمن، قد جعل الإيمان والقرآن فى صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) قال: والمصباح القرآن والإيمان الذى جعل فى صدره ( الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ) قال: والزجاجة: قلبه (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّى يُوقَدُ ) قال: فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ، يقول: مضيء ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) والشجرة المباركة أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته، لا شريك له ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال: فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر، فهى خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أى حال كانت.