فى قراءة القرآن الكريم، صورًا وتعبيرات بلاغية جديرة بالتوقف، أمام هذا النص الإلهى البليغ، ومعجزة الله الكلامية التى جاء بها النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ليرى الناس الهدى والفرقان ويهديهم من الظلمات إلى النور، فجاء كآية للناس بجلال كلماته وجمال مفرداته وعظمة بلاغته، ليظل "الفرقان" و"البيان" لدى الناس، قادر على جذب أسماعهم وأبصارهم، ويأسر قلوبهم.
وفى القرآن العديد من الآيات التى نزلت بلغة جميلة ووجيزة قادرة على التعبير الجمالى والتصوير الفنى، ومفردات كثيرة زينها الحسن والإبداع والإتقان، ومن تلك الآيات الجمالية التى جاءت فى القرآن: وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13).
والمعنى: منحنا (يا يحيى) الحكم صبيا، ومنحناه من عندنا وحدنا رحمة عظيمة عليه، ورحمة فى قلبه جعلته يعطف على غيره، وأعطيناه كذلك زكاة أى: طهارة فى النفس، أبعدته عن ارتكاب ما نهى الله عنه، وجعلته سباقاً لفعل الخير (وَكَانَ تَقِيّاً) أى مطيعاً لنا فى كل ما نأمره به، أو ننهاه عنه.
وحنانا من لدنا معطوف على الحكم، وقال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة، وأصله توقان النفس، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها، وقال أبو عبيدة: تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب، بمعنى واحد، يريد رحمتك، وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو سلخ بن بكر معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال مجاهد: (وحنانا من لدنا) وتعطفا من ربه عليه، وقال عكرمة: (وحنانا من لدنا) قال: محبة عليه، وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة، وقال عطاء بن أبى رباح: (وحنانا من لدنا)، قال: تعظيما من لدنا.
ومعنى من لدنا من جانبنا، قيل: ويجوز أن يكون المعنى: أعطيناه رحمة من لدنا كائنة فى قلبه يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر وزكاة معطوف على من قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر، أى: جعلناه مباركا للناس يهديهم إلى الخير، وقيل: زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود، وقيل: صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة وكان تقيا [ص: 885] أى: متجنبا لمعاصى الله مطيعا له، وقد روى أنه لم يعمل معصية قط، وبرا بوالديه معطوف على (تقيا)، البر هنا بمعنى البار، فعل بمعنى فاعل، والمعنى: لطيفا بهما محسنا إليهما ولم يكن جبارا عصيا أى: لم يكن متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.