عن الحيل والمحتالين يروى أبو الفرج ابن الجوزى، فى كتابه «أخبار الظرّاف والمتماجنين»، أنه قدّم قومٌ غريما لهم إلى القاضى وادعوا عليه أنه مدين لا يريد سداد دينه لهم، ولم ينكر المدعى عليه الدين وقال: صدقوا، إلا أنى سألتهم أن يُؤخّرونى حتى أبيع عَقاَرى وأدفع إليهم، فإن لى مالا وعقارا وإبلا، فقال المدعون: كذب، إنه لا يملك شيئا، فقال المدعى عليه: أيها القاضى، اشهدْ لى عليهم، فعَدَمَه، أى أشهر إفلاسه، ثم قال لِخُصومه: قدْ عدمْتُه، فأُركبَ حمارا، ونُودى عليه: هذا مُعدمٌ، فلا يُعامله أحد إلا بالنَقْدِ، فلما كان العشاءُ تُرك عن الحمار، فقال له المكارىُ: هاتِ أُجرة الحمار، قال: ففيمَ كنا مُذِ الغداة، ألا ترى أننى معدم؟.
ومنها ما نقله ابن الجوزى أيضا عن رجل كثر عليه الدين حتى توارى عن غرمائه ولزم منزله، فأتاه غريم له عليه شىء يسير فتلطف حتى وصل إليه، فقال له: ماذا تعطينى إن أنا دللتك على حيلة تنجيك من غرمائك، وتخرجك من عزلتك؟. قال له: لو فعلت أقضيك حقك، وأزيدك مما عندى ما تقر به عينك. فقال الرجل للمديون: إذا كان غد مر خادمك يكنس بابك وفناءك ويرش، ويبسط على دكانك حصرا ويضع لك متكئا، وكل من يمر عليك ويسلم انبح فى وجهه. ومن كلمك فانبح له، حتى لو كان من أهلك أو خدمك، حتى تصير إلى الوالى فإذا كلمك انبح له، فإذا أيقن أن ذلك منك جد لم يشك أنه راح عقلك، فيخلى عنك. ولا يغرى عليك.
ففعل المديون، ومر به بعض جيرانه فسلم عليه، فنبح فى وجهه، ثم مر آخر ففعل، حتى تسامع غرماؤه، وكلما حضر شخص نبح عليه، فتعلقوا به ورفعوه إلى الوالى، فسأله الوالى فرد بالنباح، وإلى القاضى، فلم يزده عن النباح، فأمر بحبسه أياما وجعل العيون عليه، وتحكم فى نفسه بالنباح، فلما رأى القاضى ذلك أمر غرماءه بالكف عنه، وقال: هذا رجل عقله ضائع. وخلى سبيله، فانطلق الرجل وظل أياما ينبح لكل من يراه أو يكلمه. حتى أتاه غريمه صاحب الحيلة وكان قد اتفق معه على أن يعطيه حقه وزيادة، وطالبه بأن يوفى بوعده، فلما كلمه ظل ينبح فى وجهه، ولا يزيده على النباح، حتى يئس وانصرف فاقدا كل أمل فى اقتضاء حقه، وهو الذى أشار بالحيلة على صاحبه المديون.