شهدت مصر عقب خروج الحملة الفرنسية منها عام 1801م فوضى سياسية عارمة تجلت فى التنافس الشرس الذى احتدم بين فرنسا وإنجلترا والدولة العثمانية والبكوات المماليك، لأجل بسط نفوذهم عليها، واستمرت هذه الفوضى قائمةً حتى تمكن "محمد على" من تولى مقاليد الحكم إثر مبايعة أعيان الشعب له واليا على مصر عام 1805م.
ومنذ تلك اللحظة، ولأجل توطيد دعائم حكمه والبقاء فى رأس السلطة، خاض "محمد على" العديد من الحروب الداخلية والخارجية؛ حيث نجح بمشاركة المصريين فى التصدى لحملة "فريزر" عام 1807م، ومن ثم إجلاء الإنجليز عن مصر، بعدها قام بالتخلُص من عدد من الزعماء الشعبيين، وعلى رأسهم السيد "عمر مكرم" نقيب الأشراف؛ حيث نفاه عام 1809م، وقضى على المماليك آخر منافسيه بالداخل فى مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811م.
خلال تلك الفترة وحول الصراعات الداخلية والأطماع الخارجية، خرجت العديد من الكتب التى حاولت توضح وتفسير الوضع فى مصر، وكيف كان وضع الدولة العثمانية مع الحملات الأجنبية المتتالية على البلاد، ومن بينها كتاب "مصر فى مطلع القرن التاسع عشر 1801 - 1811م (الجزء الثاني)" تأليف محمد شكرى فؤاد.
ويوضح الكتاب، أنه قد هددت المشاكل التى نشأت من هذه الصعوبات حكومة محمد على تهديدًا بليغًا ومباشرًا فى السنتين الأوليين ونصف السنة الثالثة، أى من حين المناداة بولايته فى مايو 1805 إلى حين جلاء الإنجليز عن الإسكندرية فى سبتمبر 1807 بعد فشل حملتهم التى كانت قد جاءت بقيادة الجنرال "فريزر" لاحتلالها فى شهر مارس من العام نفسه.
وشحذ محمد على همته لمعالجة هذه المشاكل والذود عن كيان حكومته، وساعده ما كان قد وضعه من أسس فى أثناء نضاله الماضى من أجل الوصول إلى الولاية والحكم على تناول هذه المشاكل بقسط وافر من النجاح، فاستمر المشايخ والزعماء القاهريون فى معاونته، وابتدع محمد على من الوسائل ما جعل هؤلاء فى أحيان كثيرة ملزمين بهذه المعاونة إلزامًا، فتيسر له المضى فى فرض الإتاوات والمغارم والمظالم على الشعب دون أن يلقى مقاومة، ولم يكن فى مقدوره التنحى عن سنن الطريق القديم، لنضوب معين الخزانة العامة بسبب كساد التجارة، وتعطل الزراعة، وخروج أقاليم الصعيد من حوزة الحكومة.
وكان أزاح إقلاع القبطان باشا من الإسكندرية فى أكتوبر 1805 حملًا ثقيلًا عن صدر محمد علي، عندما كان وجوده يهدد بتألب أعداء الباشا عليه فى اتحاد عام، يسبغ عليه تزعم القبطان باشا — وهو ممثل السلطان العثمانى صاحب السيادة على هذه البلاد — الصبغة الشرعية التى تزيده قوة وتوثقًا، فآذن استبعاد هذا العامل من الميدان، وتثبيت محمد على فى ولايته بانحصار التنازع على السلطة فى الفترة التالية مباشرة بين باشا القاهرة وبين البكوات المماليك، وكان نزاعًا مريرًا؛ لأن محمد على كان قد صح عزمه منذ أن دان له الحكم فى مايو على الاستقرار فى ولايته وعدم مبارحة البلاد، فبعث فى طلب ولديه إبراهيم وطوسون، ووصل هذان إلى بولاق فى 27 أغسطس 1805، وأصعد الباشا ابنه الأكبر إبراهيم إلى القلعة فى اليوم التالي، وأجلسه بها، ثم لم يلبث أن توافد عليه مواطنوه يطلبون خدمته والعمل معه وتحت لوائه، وعهد إليهم الباشا بشتى الأعمال. وكان المماليك من ناحيتهم لا يقلون إصرارًا عنه على المضى فى جهودهم من أجل انتزاع حكومة القاهرة منه، واسترجاع سلطانهم المفقود فى بلادٍ عدُّوها ملكًا خالصًا لهم يقتسمون أرزاقها فيما بينهم، ولا يسمحون لطوائف الأجناد من أرنئود ودلاتية وغيرهم ممن اعتبروهم غرباء عنها بأن يشاركوهم فى استغلالها.