من يتحكم في من، نحن من نصنع أقدارنا أم الأقدار هي من تسوقنا إلى ما تريده لنا؟ يمكن أن ندخل من خلال هذه الرؤية إلى رواية "عذراء المونتسيرات" للروائية والإعلامية قصواء الخلالي.
صدرت الرواية في 165 صفحة من القطع المتوسط، عن دار السعيد للنشر والتوزيع، عام 2018. وهي أولى تجارب قصواء الخلالي في الكتابة الروائية.
تلعب الرواية على ثيمات أساسية بينها الوحدة، ويبقى السؤال البطل: هل تقود الأقدار الإنسان إلى مصائره، أم أن الاتكاء على القدرية مجرد أوهام يصنعها الإنسان لنفسه، ومن هنا تبحث الراوية داخل عوالم النفس البشرية ورغباتها؛ الحب أيضًا محرك رئيس في العمل، فهو يتخلق بداخلنا دون حسابات واستئذان، ونجد أنفسنا واقعين فيه، نغرق فيه ونتصرف بشخصية مختلفة عما كما نظن في أنفسنا، كذلك تطرقت الرواية إلى فلسفة الأديان ومفهوم التعامل مع الآخر.
تدور رواية "عذراء المونتسيرات" حول فتاة في أواخر الثلاثينيات من عمرها، عانس، مأزومة، تعاني الوحدة، إذ تعيش وحدها منذ سنوات بعد وفاة والديها وهجرة شقيقها إلى إسبانيا، لا تخرج من شقتها إلا لعملها، ليست لديها تجارب عاطفية إلا قصة وحيدة بائسة كانت من طرف واحد، ولا تستعد أو ترغب فى أى مخاطرة أو مغامرة رغبة منها في الحفاظ على هدوئها النفسي؛ كل ذلك قبل أن تنقلب حياتها رأسًا على عقب، حين طلب منها أخوها أن تسافر إليه في زيارة أسرية لمدينة برشلونة الإسبانية، بعدما وضعت زوجته حملها الثاني «سالمة»، ورغم رفضها الفكرة في البداية لكنها تقرر في النهاية أن تسافر، وفي رحلتها تقابل «يوسف» ذلك الرجل الأربعينى الوسيم، خفيف الظل، الذى يعجب بها منذ اللقاء الأول، وتتغير حياتها بعد معرفتها به، ويقع كل منهما في حب الآخر، وتتوالى الأحداث.
تتعامل الرواية بصوت واحد هو صوت "الراوي العليم"، الشاهد الفوقي للأحداث، ما يفرض على القارئ الاستغراق في الاستمتاع بالحكي والتشابك مع الأحداث وصراعاتها وتطورها؛ ورغم حالة "الملل" التى قد يصاب بها القارئ في الصفحات الأولى من الرواية لكنه يبدو توظيفا فنيا مقصودا من الكاتبة لتعبر عن رتابة حياة البطلة ما بين منزلها وعملها وتعاملها مع الحياة بشكل فاتر.
لو نظرنا بداية إلى عنوان الرواية «عذراء المونتسيرات»، فرغم رمزيته المشيرة إلى السيدة العذراء مريم وقمم «المونتسيرات» الإسبانية المقدسة لدى المسيحيين الإسبان، إلا أنه أيضًا يحمل إشارة إلى بطلة الرواية هند «العذراء» البسيطة، بريئة الروح والتصرفات، العذراء بلا زواج والوحيدة التي تبحث عن ملاذ وونيس لروحها البائسة، وهو ما جسده الغلاف عبر فتاة تتوسطه، تجلس وحيدة على إحدى قمم «المونتسيرات» يغطى شعرها هيئتها بالكامل، تعبيرًا عن حالة الانزواء التي كانت تعيشها بطلة الرواية، وأمامها المرتفعات الجبلية الواسعة المزهرة بالأشجار والنباتات الساحرة، تنظر إليها وكأنها تتأمل حياتها.
خلال السرد الروائى استغلت الكاتبة "الأحلام" ربما لتتحرر من قيود الواقعية، وتنسج أحداثًا ذات بعد سحري توفر لها مخرجًا من مواقف الواقع، وتكمل بها خطابها الأدبي، في رؤية تتفق مع ما قاله القاص الكبير الراحل سعيد الكفراوي مسبقًا إن "استخدام الحلم إحدى حيل الكاتب للتعبير عن دواخل الروح، فأنا لا أهرب من الواقع للحلم، ولكنني أستخدم الحلم فنيًا للتعبير عن حلمي الإنساني بواقع آخر، بواسطة الكتابة"، ومن هنا أيضًا تعاملت "الخلالي" مع الأحلام داخل الرواية على أنها محرك رئيس للأحداث الواقعية، فهند لم تسافر إلا عندما أتتها والدتها في الحلم، و"هاني" شقيقها لم يدعوها للسفر إليه إلا بعدما رأى والدته في المنام، فطلب من شقيقته أن تسافر إليه محاولًا لم شمل أسرة فرقها الموت والأيام.
ويبرز فى الرواية الموروث الشعبي المتجذر في وجداننا عند رؤية الموتى في الأحلام، حيث تعاملت البطلة مع رؤية والدتها طول الوقت على أنها رسائل وإشارات خفية تدعوها لأن تكمل مصيرها، فتجدها تردد دائما «أشعر أن أقداري تسوقني إليه» تلك الجملة التي جاءت على لسان "هند" في أكثر من موضع وكانت الخيط الروائي المعبر عن أقدارها التي ساقتها إلى زيارة "جبل المونتسيرات" رغم دهشة شقيقها "هاني" وزوجته «كارلا» لصعوبة تسلقه وابتعاده عن المدينة، ومحاولة يوسف إثناءها أكثر من مرة عن المضي في هذه الرحلة، قبل أن تأتيها والدتها مجددًا في المنام فتقرر أن تشرع في رحلتها دون تراجع.
أضفت الكاتبة كذلك أبعادًا تاريخية، إذ استمدت ما يتشابك مع خطوطها الروائية من وقائع تاريخية، فتجدها تستسقي من قدسية جبل «المونتسيرات» لدى الإسبان، وكنيسة سانت ماري القابعة أعلى قمة الجبل هناك، وأحداث مذبحة الديكتاتور الإسباني فرنكو ضد الرهبان والتي راح ضحيتها العشرات، لتتواشج الأحداث وتنتج أسطورة شعبية تصنعها داخل النص، مثلما تحدثنا عن قصة تمثال عذراء مونتسيرات والخواتم الثالثة التي فقدت أثناء هروب الرهبان من قوات الجنرال فرنكو أثناء الحرب الأهلية، والخاتم الثالث الذي يقع في يد «هند» فيسوقها إلى الكنيسة، ويفتح روحها على أشياء لم تكن لتراها من قبل، مستفيدة من رمز العذراء مريم، أم المسيح المخلص، لتصل إلى الخلاص الذي كانت تحلم به ليريحها وينعش روحها.
اتكأت الروائية أيضًا خلال سردها الروائي إلى فلسفة الأديان، وتعاملت بطريقة أكثر صدقا وعمقا مع فكرة التعايش مع الآخر، وأظهرت جوانب رائعة عن فكرة التسامح والعبادة لله الواحد، وظهرت جالية من خلال عدة مواقف أشارت إليهم الأحداث، مثل سماح مسئولى إحدى كنائس برشلونة لـ «يوسف» و«هند» بالصلاة داخلها دون أى أزمات، كذلك الحالة الإنسانية والدينية الرائعة التى تعاملت بها راهبات الكنيسة مع هند بعد إصابتها أثناء تسلق قمة «المونتسيرات»، واستلهام الكاتبة من التاريخ وتضفيره مع خيالها الروائى عن قصة "الكأس المقدسة" و«عذراء المونتسيرات» ما يثبت وجهت نظره، الكاتبة نفسها تقوله (ص 144) على لسان الراهبة الأم: "خلقنا الرب جميعا من هيئة واحدة وجسد واحد، وكلنا عبدنا الله بطريقة واحدة يوما ما، فالأصل أننا كلنا مؤمنون وكلنا عبدناه من قبل، ثم اختلفت الطرق فى عبادته واختلفت الوسائل، وأصبحنا نؤدي صلاتنا جميعا بطرق مختلفة".
الكاتبة أيضا تطرقت إلى منطقة أكثر وضوحا حول فلسفة العبادة، وأبرزت طريقة روحية رائعة لمفهوم العبادات والتقرب إلى الله، حين قالت أيضا فى (ص 145): «إن هؤلاء الذين يعبدون الرب إطلاقا، حتى هؤلاء الذين لا يؤمنون بوجوده، يعبدون دون أن يعلمون، فهم يعبدونه بالإنسانية والخير الذين يقومون بعمله فى حياتهم دون أن يدركوا أن هذا الخير هو أعظم العبادات».
وكانت أسماء الشخصيات فى الرواية، من الفنيات المميزة داخل السرد الروائى، حيث استطاعت «قصواء» أن تجعل كل اسم يعبر عن شخصيته ويرمز إلى تصرفاته أو المصائر التى تأخذنا إليها الرواية، فنجد «يوسف» معبرا عن اسمه حيث يظهر فجاءة ليعطى الحب والاهتمام لـ "هند"، كذلك كان اسم البطلة واصفا قوتها وارتباطها بالأحلام ليكون لها نصيبا من معنى اسمها «الفتاة القوية» والمرتبط بالخيال والأساطير مثلما يتجذر مفهومه فى الثقافات الشرقية، كذلك اسم المولودة الجديدة «سالمة» التى كانت سببا هى الأخرى فى الرحلة التى غيرت حياة هند رأسا على عقب، فكانت رحلتها إلى برشلونة بمثابة سلام وخير وحب غمرها.
في النهاية حاولت قصواء الخلالي، أن تبحث عن مصائر الإنسان وكيف تقوده أقداره إلى الحب والحياة، وبحثت في النفوس الإنسانية وكيف تعانى الوحدة وعبرت بصدق عن مشاعر هؤلاء الذين مرت عليهم الحياة ولم يلحقوا بقطار الحب وظنوا أنه لن يمر عليهم أبدًا.