وصل خالد ابن الوليد إلى أرض معركة اليرموك، والتقى بالجيوش العربية التى كانت موجودة تنتظره، ولكن ما الذى حدث بعد ذلك، وما الذى قاله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير:
قام خالد فى الناس خطيبا.
فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف، فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم فى أول جمادى الآخرة، وقام خالد بن الوليد فى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغى فيه الفخر ولا البغى، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدا، فتعالوا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعونى اليوم إليكم فأمروه عليهم وهم يظنون أن الأمر يطول جدا، فخرجت الروم فى تعبئة لم ير مثلها قبلها قط.
وخرج خالد فى تعبئة لم تعبها العرب من قبل ذلك.
فخرج فى ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، كل كردوس ألف رجل عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة فى القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبى سفيان.
وأمر على كل كردوس أميرا، وعلى الطلائع قباب بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، والقاضى يومئذ أبو الدرداء، وقاصهم الذى يعظهم ويحثهم على القتال أبو سفيان بن حرب، وقارئهم الذى يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد المقداد بن الأسود.
وذكر إسحاق بن يسار بإسناده: أن أمراء الأرباع يومئذ كانوا أربعة:
أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبى سفيان، وخرج الناس على راياتهم وعلى الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة نفاثة بن أسامة الكنانى، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد، وهو المشير فى الحرب الذى يصدر الناس كلهم عن رأيه.
ولما أقبلت الروم فى خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها، كأنهم غمامة سوداء، يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال، وكان خالد فى الخيل بين يدى الجيش فساق بفرسه إلى أبى عبيدة فقال له:
إنى مشير بأمر، فقال: قل أمرك الله أسمع لك وأطيع فقال له خالد:
إن هؤلاء القوم لا بد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإنى أخشى على الميمنة والميسرة وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءا فنأتيهم من ورائهم.
فقال له: نعم ما رأيت.
فكان خالد فى أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، لكى إذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه فى القلب سعيد بن زيد أحد العشر رضى الله عنهم، وساق خالد إلى النساء من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها.
فقال لهن: من رأيتموه موليا فاقتلنه، ثم رجع إلى موقفه رضى الله عنه.
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال: عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بالقتال وشرِّعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله فى أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى.
قالوا: وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول: يا أهل القرآن، ومتحفظى الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ألم تسمعوا لقول الله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [النور:55] الآية، فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم فى قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.
وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، وأجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذى يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزى بالإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا فلا يهولكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.
وقال أبو سفيان: يا معشر المسلمين أنتم العرب وقد أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم فى أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر فى المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن الأرض ورائكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد لله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هى الحصون.
ثم ذهب إلى النساء فوصاهم، ثم عاد فنادى: يا معاشر أهل الإسلام حضر ما ترون فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، ثم سار إلى موقفه رحمه الله.