شغل الأدباء والنقاد العرب فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بإعادة النظر فى طرق دراسة الأدب العربي، وتطبيق الأساليب البلاغية التقليدية على اللغة المعاصرة مكتوبة ومحكية، مهمومين بالحفاظ على اللغة العربية فى مصاف اللغات الحية، مستوعبة متغيرات العصر ومفرداته الجديدة التى أفرزتها الثورات العلمية والفكرية والمادية، ولعل كان ذلك المحرك الذى دفع أحمد ضيف لتأليف كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"، إسهامًا منه فى إرساء تلك الرؤية الحداثية الرصينة للغة، التى هى فى جوهرها وأهدافها تحديث معرفى متكامل.
ويوضح الكاتب أنه أصبح من المقرر عند الأدباء الآن أن ليس الغرض من البلاغة، سرور النفس وارتياحها بقراءة الشعر البليغ والكلام الممتع والنثر البديع، ليكون ذلك ضربًا من ضروب التسلِّى فحسب؛ واعتبروا البلاغة صورة للأفكار والعقول وشيئًا من الحياة العقلية والعلمية للأمم، وجزءًا كبيرًا من تاريخ الإنسان، ورأى بعض كبار الأدباء أن البلاغة كالتاريخ من حيث الاستدلال بها على حياة الشعوب.
غير أن التاريخ يدل على الحركة السياسية، والبلاغة تدل على الحركة العقلية والاجتماعية، أو يدل التاريخ على حياة الإنسان العملية والبلاغة على حياته النفسية من فكْر وأخلاق وذكاء، وفضيلة ورذيلة، وعلم وجهل وغير ذلك؛ فجعلوا البلاغة من شعر ونثر وسيلة لدرس طبائع الإنسان ومعرفة نفوس الكُتَّاب، وقَصَر بعضُ النُّقَّاد همَّه على معرفة حقائق النفوس من أثر الكتابات، وبنى مذهبه فى النقد على ذلك، واستخرج حالة الكاتب النفسية (بسيكلوجية) من كتاباته.
مشيرا إلى أن الأدب عند العرب يشمل كل شيء، أو هو مجموع معلومات الإنسان التى اكتسبها بالقراءة والدرس من علوم عربية كالنحو والصرف، وعلوم البلاغة، والشعر والأمثال، والحِكَم والتاريخ، وغيرها من فلسفة، وسياسة، واجتماع؛ وحتى جعل ابن قتيبة فى كتابه "أدب الكاتب" من شروط الأديب أن يعرف جملة من الرياضيات والصناعات.
وقالوا: الأدب كل ما تأدَّب به الإنسان، يقصدون بذلك كل ما صَحَّ أن يُعرَف فهو من الألفاظ التى ليست لها معانٍ محدودة؛ يُطْلَقُ على دعوة الطعام، وعلى العادات والأخلاق الكريمة، وعلى التربية والتعليم. قال صاحب تاج العروس: "وإطلاقه على العلوم العربية مُولَّد حدث فى الإسلام".
وقد توسع المسلمون فى هذا اللفظ بسبب اختلاطهم بالعجم، حتى أصبح معنى الأدب جامعًا للعلم والأخلاق والفنون والصنائع وغيرها، فأطلقوه على ضرب العود ولعب الشِّطْرنج، وعلى الطب والهندسة والفروسية، وعلى مجموع علوم العرب، وعلى مقتطفات الحديث والسمر، وما يتلقَّاه الناس فى المجالس.
و البلاغة أو الكلام البليغ فن من الفنون الجميلة الفطرية للإنسان؛ لأنه مدفوع بطبيعة الحاجة إلى التفاهم، وسائرٌ بفطرته إلى التعبير عمَّا يجول بخاطره من سرور وحزن وآلام ولذة وارتياح.
وكل متكلم يرغب فى أن يكون له سلطان على نفوس السامعين، وأن يحملهم على تصديق ما يقول، والإنسان حسَّاس يتأثر بصناعة الكلام، وتفعل فيه براعة المتكلم، وحسن العبارة ما لا ينال منه البرهان والتعقل.
القراءة والفهم والتفسير والحكم هى أصول النقد وهى حَدُّه أيضًا؛ إذ لا يمكن حد النقد حدًّا تامًّا لعدم اندماجه فى قانون عام؛ لأنه ليس علمًا من العلوم التى لها قواعد خاصة، وإنما هو فن من الفنون التى تُضبَط بالعلوم وتتقدَّم بتقدمها، فإنه مبنى على قوة الذكاء وسلامة الذوق، وذلك ليس داخلًا تحت قانون عام، فضلًا عن أنه لا بد من ظهور أثر الناقد الشخصى فى حكمه على ما يقرأ.