من لا يذكر شخصية الشيخ حسنى، أحد شخصيات رواية "مالك الحزين"، الضرير، الذى لا تسعفه بصيرته برصد يوميات أبناء الحى فقط، بل هو يقود الدراجة فى شوارع القاهرة كأى شخص مبصر، تلك الشخصية كأنها مجاز لمنظور أصلان للتصوير الروائى، ورغبته بتحدى المستحيل، أن يجعل القارئ يبصر لا من خلال عينيه بل من خلال "بصيرته"، التى هى فى لغة النقد الأدبى "القدرة التخيلية".
فى كتابه "شىء من هذا القبيل" وتحت عنوان "وصل ما انقطع" يتتبّع إبراهيم أصلان مصائر الشخصيات الحقيقية لروايته "مالك الحزين" التى ملأت الدنيا خاصة بعد أن تحولت لفيلم شهير بعنوان "الكيت كات".
الهرم
يقول أصلان: "بعدما خرج تاجر المخدرات من سجنه جلس مع زوجته التى كانت جميلة. وضعت رأسها على كتفيه وارتاحت قليلاً ثم ماتت. انتابه هلع كبير ولم يخرج من بيته لشهور. ثم أطلق لحيته ووضع عمامة كبيرة، وأمسك بعصا طويلة، وصار يغادر البيت قبل صلاة الفجر، يجوب يوميًا حوارى إمبابة يدقّ الأرض بعصاه وينادى: "الصلاة خير من النوم"، وما إن تبدأ الصلاة حتى يعود إلى البيت ولا يدخل الجامع أبدًا.
تاجر الطيور
يقول أصلان بعد أن اشترى المقهى هدمه وشيّد مكانه بنايةً كبيرةً، لكن مرضًا عضالاً أصابه فى حنجرته، فسافر إلى لندن للعلاج، حيث وضعوا فى رقبته ثقبًا معدنيًا للتنفّس. وبعدما عاد إلى مصر، كان يجلس كعادته فى محله لبيع الدجاج يشرف على عمّاله وهم يزنون أو ينتفون الدجاج، وحدث أنّ الزغب المتطاير فى أجواء المكان سدّ هذه الصفارة واختنق المعلم، ليموت على أبواب دكانه
الشيخ حسنى
كان الطالب الأول فى معهد الموسيقى العربية، كان يعشق عبد الوهاب ويحفظ المواعيد التى تبثّ خلالها الإذاعات أغنياته، وكان يعمل مدرّساً للموسيقى، لكنّ إدمانه "للمسائل" وعدم اهتمامه بمظهره جعل إدارة المدرسة تتخلّى عن خدماته وتطلب منه أن يرسل شخصاً فى أول كل شهر لقبض مرتّبه.
ويضيف "أصلان" علمت أن الأحوال تدهورت به وأنه اتخذ من بولاق أبو العلا منطقة للوقوف، لأنها بعيدة عمن يعرفونه و قريبة من تجار الكيف الذين كان يقصدهم كلما تيسر، أخبرنى الشرباتى أنه بعدما مرض مرضا شديدا جاء ابنه الذى صار رجلا اﻵن وأخذه عنده فى المنيرة، و فى اليوم الذى حملوه فى طريقهم إلى المستشفى تمنى على ابنه أن يجعل التاكسى يخترق شارع السوق الطويل الذى قضى به عمره كله، و هو نام على كنبة التاكسى الخلفية وطلب أن ينبهوه عندما يصلون أول الشارع، وعندما فعلوا تحامل على نفسه وأخرج نصفه العلوى من نافذة العربة لعل أحدا من أصدقائه القدامى يلمحه، و عندما وصل التاكسى أمام عادل الشرباتى أول المساء صاح عليه: ايه يا مولانا. و أطبق الشيخ على يديه صارخا: انت مين. الشرباتى ذهل و لم يستبشر خيرا لأن الشيخ لم يتعرف عليه من صوته ولا قبضة يده و قال: الله انا عادل. و قال هو: يا عادل انا عيان و رايح المستشفي. ابقى قول للناس بقي. و استلقى بجسده الضئيل على الأريكة الخلفية. و الشيخ حسنى مات، و بقيت الصور.