ناقش الدكتور على عبد الحليم، أستاذ الآثار المصرية القديمة، اليوم الثلاثاء، الجزء الرابع عشر من موسوعة مصر القديمة، التى ألفها عالم الآثار الراحل سليم حسن، والذى يتناول عصر البطالمة فى مصر، وذلك ضمن محور ملتقى الكتب المعروض على المنصة الإلكترونية لفعاليات البرنامج الثقافي، على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب.
وفى هذا التقرير نلقى الضوء على الجزء الـ14، الذى يأتى عنوانه "الإسكندر الأكبر وبداية عهد البطالمة فى مصر".
دخلت أرض الكنانة فى طور جديد من أطوار حياتها الطويلة عندما فتحها الإسكندر وحكمها بعده ملوك البطالمة الذين دام ملكهم بالإضافة إلى ملك الإسكندر ثلاثة قرون كاملة (332–31ق.م)، غير أن عهد هؤلاء الملوك لم يؤثر فى حالة أهل البلاد التأثير الذى ظن بعض المؤرخين أنه كان عظيمًا عميقًا لدرجة كبيرة، والواقع أنه من أعجب الظواهر التى تلفت النظر وتنبه الفكر فى تاريخ أرض الكنانة منذ فجر تاريخ حضارتها حتى يومنا هذا، إن الأمم التى حاولت استيطان أرضها سواء أكان ذلك بالغزو أم بالهجرة لم تصل واحدة منها إلى انتزاع شخصيتها أو تؤثر على سكانها بصورة مُحَسَّة تمكن المؤرخ المدقق الواسع الاطِّلاع على ماضيها أن يلمسه أو يحسه بصورة جلية، لا لبس فيها ولا إبهام، وهذه الحالة قد بقيت على مر الأيام وتعاقُب الأجيال إلى أن جاء الفتح الإسلامى فكان أثره ظاهرًا بعض الشيء فى تغير حياة الشعب المصرى من حيث اللغة والدين، ومع ذلك فإنا نجد أن بعض المعتقدات الدينية والعادات المصرية القديمة قد أثرت بدورها فى المعتقدات الإسلامية فصبغتها بالصبغة المصرية القديمة، ولولا قوة تأثير القرآن وهو شريعة الإسلام وحافظ اللغة التى أُنزِل بها لظلت مصر على ما كانت عليه من تقاليد ومعتقدات متوارثة إلى يومنا هذا.
ولعمر الحق فإن معظم العادات والتقاليد المصرية القديمة التى تضرب بأعراقها إلى عهود ما قبل الأسرات، لا يزال بعضها باقيًا يتوارثه الأبناء عن الآباء جيلًا بعد جيل، وذلك على الرغم من محاربتها بشتى الطرق والإمكانيات، وعلى الرغم من تسلط المدنية الحديثة وانتشارها فى أرجاء البلاد، ومن أجل ذلك نجد أنه مما يلفت النظر بصورة واضحة جلية أن أولئك الذين يتصفحون تاريخ مصر فى عهد البطالمة دون أن يكون لهم دراية تامة بماضى تاريخ مصر قبل هذه الفترة يرون أن كل شيء قد تغير منذ فتح الإسكندر لمصر وحكم البطالمة ومن بعدهم الرومان فالعرب، فيرى القارئ العادى أن مصر كانت تنتقل من مرحلة لمرحلة أخرى من مراحل تاريخها وأنه قد أصبح فى بيئة أخرى غير التى كان يعيش فيها قدماء المصريين. والواقع أن مثل هذا القارئ يُعَدُّ واهمًا فى زعمه، خاطئًا فى حكمه بعيدًا عن الحقيقة كل البعد، حقًّا نجد تغيرًا فى أحوال البلاد عند الانتقال من يد حكومة إلى أخرى، ولكنه كان تغيرًا سطحيًّا لا يمس جوهر كنه البلاد وطبائع أهلها، وأظهر ما يكون هذا التغير عادة فى مسميات المؤسسات والبلدان، وذلك تمشيًا مع الأحوال السياسية والدينية والاجتماعية فقد تجد تبعًا لميول الحكام أن اسم البلدة الواحدة قد تغير مرات عدة، ولكن سكانها وما فُطِروا عليه من عادات وأخلاق ولغة قد ظلوا على ما كانوا عليه منذ فجر التاريخ، ولنضرب لذلك مثلًا بمدينة الفيوم فقد تسمت بأسماء مختلفة فى خلال العهد المصرى القديم والعهد المتأخر تمشيًا مع ميول الحكام ورغباتهم وسياستهم، وكما حدث تغير فى أسماء البلدان نَجِدُ كذلك تغيرًا فى مسائل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فقد اختفى بعضها وحل محلها غيرها، ومن ثم نرى أن القوى التى كانت تسيطر على تطور المجمع على حسب مقتضيات الأحوال عامة تندمج فى عناصر جديدة وتلبس ثوبًا قشيبًا يتناسب مع مجرى الأمور؛ مثال ذلك أننا نشاهد أنه بعد دخول الإسكندر الأكبر البلاد المصرية والسيطرة عليها بأعوانه وحكومته الجديدة قد اختفى من البلاد عنصر طبقة الأشراف وهم عظماء رجال الإقطاع الذين كان فى قبضتهم معظم الثروة فى البلاد فى عهد الفراعنة، والمُطَّلِع على تاريخ مصر القديمة يعلم تمام العلم مما جاء فى تراجم هؤلاء الأشراف أنهم كانوا يلعبون الدور الأول فى بناء المجتمع المصرى فى معظم فترات التاريخ الفرعونى منذ نهاية الدولة القديمة.
وعلى أى حال نجد بعد فتح الإسكندر لمصر أن طبقة الأشراف وحكام المقاطعات قد أُخْرِسَ لسانهم واختفوا عن الأنظار مدة إلى أن سنحت لهم الفرصة فظهروا ثانية لمدة وهكذا دَوَالَيْك، والآن يتساءل المرء بعد هذه الإيضاحات التى أوردناها هنا، أحقًّا أن كل شيء قد تغير فى مصر على إثر دخول الإسكندر وأتباعه؟ وهل فقدت مثلًا المعابد المصرية سلطانها ونفوذها على أهل البلاد، وبخاصة عندما نعلم أن هذا النفوذ كان أمضى سلاح فى يد الكهنة المصريين فى كل عصور التاريخ المصرى القديم؟ والواقع على أية حال أن كل ما نفهمه مما لدينا من وثائق إغريقية أن عامة الشعب المصرى كان يؤلف كتلة نكرة من البشر ليس لديهم ما يميزهم وذلك على حسب ما تركه الإغريق الأقدمون فى كتاباتهم أو فيما كشف عنه من أوراق بردية إلى أن كشف عن سجلات «زينون» منذ زمن قريب، فقدمت لنا صفحة جديدة منقطعة القرين بالنسبة لحالة الشعب المصرى وبخاصة الطبقة الدنيا منه وعلاقتها بالحكام الإغريق كما سنفصل القول فى ذلك فى مكانه.
وعلى أى حال فإنه مع كل ما لدينا من معلومات تاريخية مما كتبه الأقدمون وما استنبط من أوراق البردى عن الفترة التى تلت فتح الإسكندر تعتبر إلى حد ما غامضة لدرجة أن الباحث قد أصبح فى مقدوره أن يتعرف على الكثير من أحوال المصريين الذين عاشوا فى القرن الخامس قبل الميلاد مما كتبه "هردوت" وغيره ممن زاروا مصر فى هذه الفترة واتصلوا بأهلها، أكثر مما فى استطاعته أن يعرفه عن أرض الكنانة من أولئك الكُتَّاب الذى عاشوا فى أواخر القرن الرابع والقرن الثالث قبل الميلاد، وذلك على الرغم من أن الوثائق التى جادت بها تربة مصر خاصة بهذا العهد الأخير كثيرة العدد ومما يدهش الباحث أن المؤرخ «ديودور الصقلي» قد نقل لنا عن غيره الكثير مما هو ثمين أو غثٌّ من تاريخ العهد الفرعوني، غير أنه بكل أسف لم يذكر لنا شيئًا له قيمة على وجه التقريب عن مؤلفى عصره؛ أى عصر البطالمة فى مصر بوجه عام، والمفهوم إذن أنه منذ بداية القرن الثالث قبل الميلاد كان رجال الاحتلال الإغريقى وغيرهم فى مصر لا يكتبون ولا يفكرون إلا بالإغريقية، ومن ثم نجد أن طبقات الشعب من فلاحين وصناع وتجار لم يُعرَف لهم تاريخ قائم بذاته فى هذا العهد بالذات، ومن أجل ذلك تفرض المصادر التى فى متناولنا عن تاريخ الشعب المصرى الأصيل على المؤرخ الذى يريد أن يكتب عن شعب مصر فى عهد البطالمة أن يلقى بقلمه ويفسح المجال لمن يريد الكتابة فى هذه الفترة من تاريخ البلاد لمؤرخ غيره متخصص فى العصر الهيلانستيكي، والواقع أن تغيير المؤلف يكاد يزيد فى حقيقة وجهة النظر التى يحتملها هذا التغير المفاجئ فى طبيعة المصادر التى بين أيدينا عن تاريخ مصر، فمما لا جدال فيه أن المؤرخين الذين كتبوا عن مصر فى هذه الفترة قد ميزوا بين مراحل الحياة فى الديار المصرية التى امتازت بالانقلابات العجيبة، غير أن هؤلاء المؤرخين لم يروا حقيقة الأمر قط بعين فاحصة بما فيه الكفاية الموصول إلى كنه هذه الانقلابات التى لا تلبث أن تتكشف للمؤرخ المدقق بأنها ليست إلا خدعة أو سرابًا خلابًا لا يرتكز على حقائق عميقة تضرب بأصولها فى صميم تاريخ أرض الكنانة، وقد كتب فى هذا الموضوع بعض المؤرخين فأصروا فى بحوثهم على أن نظم الحكم الإدارى فى عهد البطالمة قد استمر بحالة واحدة حتى العهد الروماني، ولكن نرى لزامًا علينا أن نلفت النظر هنا أن المؤرخ إذا حاول أن يكتب تاريخ أية بلاد محتلة بلغة القوم المحتلين، وتجاهل ما كُتِب عن تلك البلاد بلغتها الأصلية فإنه لا محالة يضل السبيل وبذلك ينتقل فى كتابة تاريخ هذه البلاد من مرحلة إلى الأخرى دون أن يصل إلى الحقائق الجوهرية التى تنطوى عليها أحوال أهل هذه البلاد، وبذلك يكون ما كتبه هذا المؤرخ لا يمس كنه أحوال هذه البلاد من حيث الاجتماع والدين والأخلاق، والثقافة الوطنية.