نواصل قراءة تاريخ مصر الحضارى، ونتوقف اليوم مع الجزء الثالث من موسوعة مصر القديمة لعالم المصريات سليم حسن بعنوان "فى تاريخ الدولة الوسطى ومدنيتها وعلاقتها بالسودان والأقطار الآسيوية والعربية".
يقول سليم حسن فى مقدمة هذا الجزء:
فى صيف عام 1940 أتممت وضع الجزأين الأول والثانى من تاريخ مصر القديمة حتى العهد الإهناسى، أى الأسرة العاشرة، وكان بودِّى أن أسير قدمًا فى طريقى وأضع الجزء الثالث الذى ينتظم الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة، ولكن عقبات نهدت فى الطريق والحرب قائمة، فلم أستطع بين طوفان الحوادث وطغيان الكوارث أن أتصل بالأوساط العلمية الأوروبية، وأن أغترف من مصادرها ما يساعدنى على إخراج بحث وافٍ تام العناصر قوى الأسباب، من أجل ذلك آثرت وقتئذ أن أخرج للناس "كتاب الأدب المصرى القديم" الذى كنت قد سرت فى وضعه شوطًا بعيدًا حتى تنفرج الغمة ويزول شبح الحرب المخيف، فلما استقرت السيوف فى أغمادها وذهبت نوازى الشر من الرءوس واتصل ما انقطع من أسباب التعاون الفكرى، أخذت أدرس كل ما جدَّ من البحوث العلمية حول هذا العصر والأسرة الحادية عشرة منه بخاصة، لأن هذه الأسرة لا تزال رغم مجهود العلماء وكشف الباحثين فى حاجة إلى من يُظهر حقائقها التاريخية ناصعة بريئة من شوائب الظن والحدس.
لقد أبان لنا معول المنقب صفحات مجيدة فى حياة القوم الاجتماعية والزراعية والدينية والصناعية فى هذه الفترة مما لم نحظ به فى عصر آخر، ومن أجل هذا نشرنا هذه الصفحات مستعيضين بها عن تلك الحقائق الجافة المتكررة المتشابهة التى تتناول الملوك وأعمالهم والتى نلقنها أبناءنا فى شيء من التكلف والتصنع.
فإذا قرأت رسائل "حقا نخت" فى هذا الكتاب وجدت أمامك صورة حية عن حياة الفلاح المصرى كانت مطوية محجوبة عنا منذ أربعة آلاف سنة تقريبًا، وإذا فحصت محتويات مقبرة «مكت رع» وجدت صفحة مجيدة تقرأ فيها حياة القوم الاجتماعية بكل مظاهرها من صناعة وفن وتجارة وشئون منزلية وزراعية واقتصادية، مما يجعلك تقف مشدوهًا حائرًا أمام ما وصل إليه القوم من الحذق والمهارة الفنية وتفهم طرائق الحياة والافتنان فيها والإبداع فى إجادتها.
وإذا درس رب السيف لوحات الجندية التى عرضناها فى هذا الكتاب لمس فيها قوة التضامن الحربى وإجادة فنون القتال، ومكانة الجندى بين قومه، وعرف لأوَّل مرة فى تاريخ العالم قيمة الكلاب فى الحروب والدور الذى كانت تلعبه.
كل هذه لمع تبدو من وقت لآخر، فتأخذ بيدنا فى تلك المجاهل المظلمة التى اعترضت سيرنا عند الكتابة فى تاريخ الأسرة الحادية عشرة.
والواقع أنك لا تجد اثنين من مؤلفى عصرنا يتفقان على رأى واحد عند الكتابة فى تاريخ هذه الأسرة، وأن أعظم قدر كُتب فيها لا يتعدَّى عشرين صفحة، على أنَّا قد جمعنا هنا كل ما يمكن من الحقائق التاريخية الهامة عن حياة هذه الأسرة وبخاصة الناحية الاجتماعية، وقد كان اعتمادنا فى ذلك على المصادر الأصلية بقدر ما سمحت به الأحوال.
أما الأسرة الثانية عشرة، وهى العصر الذهبى لمصر الخالدة، فإن الباحث فيها، رغم ما يلاقيه من فجوات فى تاريخها، لا يعسر عليه أن يعرف تاريخًا لها مرتب العهود مسلسل الحوادث، وإن كان جزؤه الأخير عليه ستار رقيق من الشك والإبهام.
وإن الباحث فى التاريخ المصرى منذ نشأته يلحظ أن شعب مصر قد قام بعد سقوط الدولة القديمة بأوَّل ثورة اجتماعية على الأغنياء والملوك، وطالب بالعدالة الاجتماعية والدينية، فنال ما أراد؛ وبذلك سجل أول انتصار للإنسانية فى ميدان النضال لنيل الحرية الشخصية والمساواة بينه وبين الحكام الغاشمين، مما أفضى إلى مساواته فى عالم الآخرة بالملوك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أربابًا، وأن الجنة مأواهم وحسب. وكان أن تأسست الأسرة الثانية عشرة بفضل حاكم عادل يظهر أنه من أسرة شعبية بل من أم نوبية (سودانية)، فسارت البلاد بخطًى واسعة سريعة نحو التقدُّم التجارى والصناعى والفني، وازدهر الأدب ازدهارًا عظيمًا، وبدأت الفتوح المظفرة فى الشمال والجنوب، فكان ذلك إيذانًا بتأسيس إمبراطورية عظيمة لم تلبث أن امتد سلطانها على كل أرجاء العالم المتمدن فى الدولة الحديثة.
والظاهرة التى تستحق التسجيل هنا أن الثقافة التى عمت البلاد فى هذا العصر كانت وليدة التربة المصرية نفسها، والتفكير المصرى ذاته، لم تستَعن فى ذلك بدولة أجنبية، ولم تأخذ عن غيرها شيئًا؛ فأدبها وفنونها وصناعاتها وديانتها وطرق حياتها ونظم حكمها تضرب بأعراقها إلى أصل مصرى بحت؛ من أجل هذا أطلقنا على هذه الفترة «العصر الذهبى فى التاريخ المصري».
وقد حاولنا فى هذا الفصل من الكتاب أن نعرض أعمال كل ملك على حدة، ثم شفعنا ذلك بفصل فى أصول المدنية فى هذا العهد، وبخاصة من ناحية علاقات مصر بالأمم المجاورة لها وهى فلسطين وسوريا وبلاد شرق الأردن ولبنان والأناضول ولوبيا، ثم السودان وارتباطه بمصر منذ أقدم العصور التى ترجع إلى ما قبل التاريخ، وقد فصلنا القول فى نشأة الإمبراطورية المصرية فى آسيا والروابط التى كانت بين أهلها وبين مصر فى عهد الأسرة الثانية عشرة، ثم تعرَّضنا لما كان بين مصر وبلاد النوبة من علاقات، وما طرأ عليها من الوهن، ثم توثقها فى عهد «الدولة الوسطى» حتى وصلت الفتوح المصرية فى هذه الجهة إلى ما بعد الشلال الثالث على يد «سنوسرت الثالث» الفاتح العظيم.
ولقد وجهنا مزيد عناية لدرس الحياة الدينية فى هذا العهد، فرسمنا صورها كما وجدناها على الآثار، وطبق ما أوحته متون التوابيت التى امتاز بها هذا العصر، وأخصها ما جاء عن عالم الآخرة وكيف يصل إليه المُتوفَّى، وما يصادفه من عقبات ومصاعب تحاول صدَّ المُتوفَّى عن ورد الخوض المحبوب، ولقد فصلنا القول فى ذلك رغم ما فى المتن من صعوبات لغوية بما لم نسبق إليه؛ إذ إن معظم المشتغلين بالآثار لم يلتفتوا إلى هذا الكتاب الذى أسموه «كتاب الطريقين»، ولقد خصصته بعنايتى لأوجه الشبه الكبيرة بينه وبين الخرافات التى نقرؤها فى الكتب القصصية عن الجنة والنار، ولأنه يكشف عن ناحية من النواحى العقلية عند القوم، ويبين تصوَّراتهم الفلسفية عن عالم الآخرة الذى لا يفوز فيه إلا من آمن وعمل صالحًا.