الشعراء الفلسطينيين من أبرز من افتتنوا بالقهوة وكتبوا عنها، فكان يغازل فنجان قهوته فى أشعار كمن يغازل حبيبته، فالقهوة فى عيون شاعرنا كالحب، وقد احتفظ لها أيضًا بأعظم المعانى والصفات، وبدا من تفنيده لطريقة تحضير القهوة ووصفه لرائحتها واختلاف طعمها باختلاف اليد التى تعدها، كخبير فى القهوة التى تبدو من خلاله وكأنها علم يمضى فى دراسته أغلب أوقاته.
تمر اليوم الذكرى الـ13 على رحيل الفلسطينى الكبير محمود درويش، إذ رحل عن عالمنا فى 9 أغسطس عام 2008، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. يعتبر درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربى الحديث وإدخال الرمزية فيه. فى شعر درويش يمتزج الحب بالوطن بالحبيبة الأنثى. قام بكتابة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطينى التى تم إعلانها فى الجزائر.
وبحسب ما ذكره الموقع الرسمى للشاعر الراحل، يعترف أصدقاء درويش المقربون بأنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن فى ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره. كان يصر على أن يصنع القهوة بيديه، ويخدم زواره. أثناء الحرب فى بيروت عاش فى شقة تفصل واجهة زجاجية فيها بين غرفة النوم والمطبخ وهى معرضة للقناصة، وعندما يريد أن يذهب ليصنع فنجان قهوة كان يتردد فى المغامرة بروحه من أجل المرور إلى المطبخ وصنعها، يقول كل ذلك فى كتابه (ذاكرة للنسيان):
"أريد رائحة القهوة. لأتماسك، لأقف على قدميّ. كيف أذيع رائحة القهوة فى خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لنشر رائحة البارود ومذاق العدم! صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة لا تكفى لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر.
أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لى من مطلب شخصى غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هى مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هى أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
فى وسع الغزاة أن يسلطوا البحر والجو والبر عليّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا منى رائحة القهوة. سأصنع قهوتى الآن. سأشرب القهوة الآن. سأمتلئ برائحة القهوة الآن، لأعيش يوما آخر، أو أموت محاطا برائحة القهوة.
ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى، ببطء، على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائرى فى البداية، ثم من فوق إلى تحت. تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة. بين الملعقة والأخرى أبعد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار. بعد ذلك "لَقِّم" القهوة، أى املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى، ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذى اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق. لا تدعها تغرق. أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ. خذ القهوة إلى الممر الضيق. صبها بحنان وافتنان فى فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة. راقب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة. أشعل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان.
ها أنذا أولد. امتلأت عروقى بمخدرها المنبه. أتساءل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لى أطباء القلب وهم يدخنون: لا تدخن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب.
أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. ودفاعى عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارق. ليس هنالك مذاق اسمه مذاق القهوة. لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته. ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة. ذلك يعنى أن مطبخ السيدة ليس مرتبا. وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب. ذلك يعنى أن صاحب البيت بخيل. وثمة قهوة لها رائحة العطر. ذلك يعنى أن السيدة شديدة الاهتمام بظاهر الأشياء. وثمة قهوة لها ملمس الطحلب فى الفم. ذلك يعنى أن صاحبها يسارى طفولي. وثمة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألب البن فى الماء الساخن. ذلك يعنى أن صاحبها يمينى متطرف. وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي. ذلك يعنى أن السيدة محدثة النعمة.
لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى. وأنا أعرف القهوة من بعيد: تسير فى خط مستقيم، فى البداية، ثم تتعرج وتتلوى وتتأوّد وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات. رائحة القهوة تتحدر من سلالة المكان الأول. هى رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود. القهوة مكان. القهوة مسام تسرب الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هى رائحة القهوة. هى ضد الفطام.. القهوة جغرافيا.
فى السجن لم أتكيف أبدا مع غياب القهوة الصباحية. ما أشد أنانيتي! لقد حرمت زميلا فى السجن من نصف فنجان من القهوة، ما دفع الأقدار إلى معاقبتي، بعد أسبوع، يوم جاءت أمى لزيارتى ومعها إبريق من القهوة، دلقه الحارس على العشب".
كان محمود طباخا ماهرا، يتقن ثلاث أكلات ويتفنن فى تقديمها؛ وهى الملوخية والفاصولياء البيضاء والبامياء. وكان يسهب فى وصف طريقته للطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، ونوعية البهارات التى يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها. أما الوجبة التى كان يعشقها، ويختارها إذا ما عزمه أحد وخيّره بنوعية الطعام فهى "المنسف" التى يعتبرها وجبة لذيذة.