نلقى الضوء على كتاب "تطويع المحافظة: الأوراسيون – الإسلاموية – الغرب" الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، والذى يتناول الاستجابات المتباينة لفكرة المحافظة والتقاليد والتحولات الاجتماعية والسياسية فى المجالين الروسى والأميركى، ويتعمّق فى دراسة تنظيرات التيار الأوراسى الصاعد، وما ارتبط به من نظريات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، واستراتيجيات وتحالفات قارية، اتخذت مساراً تصاعدياً مع سعى روسيا فى عهد بوتين لاستعادة "عظمتها الإمبراطورية".
وتقدّر النزعة المحافظة الأميركية -التى تطرق إليها الكتاب فى ثلاث دراسات- التقاليد وتحترم الحكمة التراكمية للتجربة السياسية، ويُعاد النظر إليها الآن بتوجس فى إطار إعادة بناء القيم الأميركية، التى يدعو إليها الرئيس الأميركى جو بايدن، وفريق عمله، إذ حُسِبَت تيارات كبيرة منها على الرئيس السابق دونالد ترمب، وهى تنتظم فى أكثر من تيار تحكمه اتجاهات اقتصادية بالدرجة الأولى.
بينما تبدو الفكرة فى المسار الروسى أكثر شراسة وتماسكًا، وسعيًا مكشوفًا "لمقاومة الليبرالية"، ولوراثة السطوة الأيديولوجية، وتحويلها إلى حزمة أفكار تنفيذية بديلة، تجمع شتات الاتحاد السوفيتي، وتقدم لورثته وثاقاً بديلاً يقوم على الاقتصاد، والروح التقليدية المحسّنة.
وحاولت إحدى الدراسات فهم المحافظة الأوراسية بالنظر إليها ضمن متغيرات ثلاثة: السلطة (الدولة)، والربح (النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسي)، والقيم (الدين، والأيديولوجيا)، وذلك بالعودة إلى الحقبتين القيصرية والسوفيتية، وعملت على تفسير إعادة بناء الروح فى روسيا «الاتحادية»، ليس باعتبارها عودة إلى الأمام، بل إدراك أن الجغرافيا السياسية، تفرض على دعاتها توظيف الفكرة لخدمة روسيا، والحفاظ على تصوراتها القيمية، ورصيدها الروحى الذى يتغذّى من أرثوذكسيتها، وكونها "روما الثالثة".
يبرز فى موازاة المحافظة الروسية التى تعبر عنها الأوراسية الجديدة فى المضمار السياسي، تيار المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة، كمجموعة سياسية من اليمين المسيحي، تؤمن بقوة الولايات المتحدة ونفوذها، وتُعتبر –بدورها- أقوى تيار يجسد مفهوم "التفوّق الأميركي".
وبعيداً عن التباين فى توصيفها كـــ"تيار" أو "أيديولوجيا" محافظة أو فلسفة، يبيّن الكتاب أن المحافظة الأميركية الجديدة، ظهرت كحركة سياسية فى ستينيات القرن العشرين، وسط صقور الليبراليين الذين وجدوا أنفسهم محبطين من سمة المهادنة، التى اتصفت بها السياسة الخارجية للحزب الديمقراطى آنذاك، وكذلك بسبب تصاعد زخم الثقافة التقدمية المضادة لهم فى تلك الحقبة، لا سيما معارضى حرب فيتنام.
يؤمن المحافظون الجدد –كما تزعم دراسة فى الكتاب- بضرورة تعزيز الديمقراطية، وزيادة التدخل فى الشؤون الدولية وفرض السلام عن طريق القوة، كما أنهم يرفضون الشيوعية حيث كانت، وينظرون بحذر للتغيرات الراديكالية؛ ويصفونها بالتطرف السياسي.
وتطرق الكتاب إلى منابع الفكر السياسى المعاصر فى روسيا، ومراحل تطور الاستراتيجية الخارجية فى مجالها الجغرافى الحيوى وصولاً إلى منطقة الشرق الأوسط. شرحت دراسة المُنَظِّر الروسى الأبرز ألكسندر دوغين الدعائم التى تقوم عليها "النظرية السياسية الرابعة" كما يسميها، ورؤيتها إلى الشرق الأوسط، وموقفها من الإسلام السياسى، وما يراه "هيمنةً أميركية" على العالم! ترك "فيلسوف الأوراسية الجديدة" تأثيراً سياسياً كبيراً فى الداخل الروسى ومجاله الحيوى والإقليمى والقارى، ولقيت مواقفه وآراؤه السياسية، نقداً فى مراكز الأبحاث الأميركية التى عرضت لها إحدى الدراسات بالنقد والتحليل، إذ اعتبره البعض "أخطر الأيديولوجيين على الكوكب"!، ووصف بأنه "عقل بوتين الاستراتيجي"، وهو الذى حول الخصومة "الكلاسيكية الأوراسية" من أوروبا الرومانية الجرمانية إلى أميركا، التى يراها مركزَ الثقافة الليبرالية الجديد، لتأكيد خصومة التيار الأوراسى للثقافة الغربية أيّاً كانت قيادتها!