تسارعت الأمور فى سنة 64 هجرية وصار عبد الله بن الزبير يحكم فى أماكن، وصار الأميون يحكمون فى أملكن أخرى، لكن ماذا عن الكعبة المشرفة، هل هدمها عبد الله بن الزبير وأعاد بنائها، وما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "ذكر هدم الكعبة وبنائها فى أيام ابن الزبير"
قال ابن جرير: وفى هذه السنة (64 هجرية) هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لأنه مال جدارها من رمى المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم.
وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الأسود فى تابوت فى سرق من حرير، وادخر ما كان فى الكعبة من حلى وثياب وطيب، عند الخزان، حتى أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله ﷺ يريد أن يبنيها عليه من الشكل.
وذلك كما ثبت فى الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال: "لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا".
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله ﷺ، فجزاه الله خيرا.
ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف فى سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط الشمالى وأخرج الحجر كما كان أولا، وأدخل الحجارة التى هدمها فى جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربى.
وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان فى ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك.
وقد هم ابن المنصور المهدى أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس فى ذلك، فقال: إنى أكره أن يتخذها الملوك لعبة، يعني: يتلاعبون فى بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأى ابن الزبير، وهذا يرى رأى عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيا آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن المرزبان، وامتنع شريح أن يحكم فى زمان الفتنة.
وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان فى آواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدمنا.
وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له فى الوقعة.
وقيل: إن فيها دخل مروان مصر وأخذها من نائبها الذى من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر.
واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلم.
وقال الواقدي: لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس فى هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بذلك.
وقال ابن عباس: أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها.
ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام، ثم غدا فى اليوم الرابع فبدأ ينقض الركن إلى الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلا بالحجر مشبكا كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا فأمرهم أن يحفروا.
فلما ضربوا بالمعاول فى تلك الأحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه وباب يخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده، وشده بفضة لأنه كان قد تصدع، وزاد فى وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج.
ثم اعتمر من مساجد عائشة، وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الأسود من النار التى كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت فى الصحيحين من حديث عائشة المتقدم ذكره والله أعلم.