ننشر حلقة ثانية من مقالات "على مائدة صلاح عبد الصبور" للشاعر والناقد أحمد حسن، وذلك احتفاء بذكرى مرور أربعين عاما على رحيل الشاعر الكبير الذى توفى يوم 14 أغسطس سنة 1981.
يحكى صلاح عبد الصبور -حين تفتحت مواهبه الشعرية المبكرة- أن محمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه "كانا لات الشعر وعزاه "فى إشارة منه إلى هيمنة الشاعرين الكبيرين على مشهد الشعر المصرى فى تلك الأونة. وبالرغم من أن إعجاب عبد الصبور بمحمود حسن إسماعيل كان أكبر من إعجابه بعلى طه؛ لأنه كان يؤثر "الفوضى المنظمة" التى يمثلها الأول على "النظام المصقول" الذى يجسده الثاني، فإنه سرعان ما تخلص، لا من تأثيرهما فقط بل من عالميهما كذلك؛ بسبب اندماجه فى عالم الحياة الحديثة المتطورة وإلمامه بالثقافة الغربية المحدثة، حين التحق بجامعة القاهرة، وتعرف إلى المذاهب الأدبية الحديثة، واطلع على إبداع المشاهير من شعراء العالم الكبار مثل : إليوت وأندريه بريتون وبودلير وفاليرى ورلكه وشيلى ووردزورث، على اختلاف جنسايتهم وتعدد مذاهبهم، لكن تلك القراءات والتفاعلات الثقافية لم تكن دليلا على التبعية الإبداعية أو بمعنى آخر لم تكن إعادة صياغة رؤى هؤلاء الشعراء للعالم، بقدر ما كانت مؤشرا حيا على التمثل الخلاق والاستيعاب الواعى والحوار الإبداعى الذى يؤكد التفاعل الحيوى بين المؤثرات الثقافية وتجارب الحياة المتنوعة، ولعل ذلك ما وضع شاعرنا الكبير فى قلب الحياة العصرية مستبدلا بملمح "السياق العام" الذى يتابع فيه الشاعر ما هو شائع من أحداث أو آراء أو ذوق أدبى مهيمن، ملمح "السياق الحضاري" بكل ما يستدعيه من فكرة التأسيس المفصلى لدور الشاعر فى لحظته المعاصرة التى لم يعد الشاعر فيها يخاطب "المجموع" فى "الشأن العام" بأداء خطابى مباشر ينظم فيه - على طريقة الصحافة - ما يتناثر من أقوال الحياة العامة أو أحداثها السياسية والاجتماعية دون إعادة تأملها أو استخلاص العمق الكامن وراءها، بل أضحى الشاعر- فى تصور عبدالصبور- هو صاحب الصوت الهامس الذى يخاطب الأفراد بذواتهم وصاحب الرؤية الفردية التى تعيد بناء الكون بعد أن تعيد اكتشافه بقدرتها الصياغية التى التركيب والتوفيق بين المتنافرات، وكأننا نراها من جديد بحدقة الشاعر الذى لا يساير المجموع بل "يجافيهم ليعرفهم" ويكشف لهم من أمورهم الخاصة ما كان خافيا عنهم، هاربا منهم، مختبئا فى إيقاع حياتهم الآلية الرتيبة الخالية من عمق المعنى وصفاء التأمل.
يقول صلاح عبدالصبور:
أنا شاعر
ولكن بظهر السوق أصحاب أخلَّاء
وأسمر بينهم بالليل أسقيهم ويسقونى
تطول بنا أحاديث الندامى حين يلقوني
على أنى سأرجع فى ظلام الليل حين يفض سامركم
وحين يغور نجم الشرق فى بيت السما الأزرق
إلى بيتى
وحيدا فى سماواتى
وأحلم بالرجوع إليكم طلقا وممتلأ
بأنغامى وأبياتى
أجافيكم لأعرفكم
إنه التوحد قرين الإبداع والقدرة على الانسحاب من عالم شديد الوطأة على أفراده العابرين، والجفاء قنطرة المعرفة التى لا يجتازها إلا القادرون على الإصغاء لصوت الذات وهى تتأمل العالم دون أن تقع فى فخ ضجيجه الفوار.