نواصل سلسلة حياة المصريين مع موسوعة مصر القديمة لعالم المصريات الشهير سليم حسن، ونتوقف مع الجزء الخامس عشر الذى يأتى بعنوان "من أواخر عهد بطليموس الثانى إلى آخر عهد بطليموس الرابع".
ويقول سليم حسن فى التمهيد:
كانت آخر مرحلة وصلنا إليها فى الجزء السابق من مصر القديمة هى الأحداث الجِسام، والإصلاحات الجبارة، والتطورات السياسية المثيرة، والأنظمة الاجتماعية الحديثة التى وقعت فى عهد "بطليموس الثانى" الذى يُعَدُّ عهده بحق زمنَ رخاءٍ وسؤددٍ وفَلَاحٍ، فى داخل البلاد المصرية وخارجها بالنسبة لما كانت تصبو إليه نفسه وأُسْرته من قبل، وكذلك ما كان يرغب فيه الشعب الهيلانستيكى المستعمر.
حقًّا؛ بلغت أرض الكنانة فى عهد هذا العاهل ظاهرًا شأوًا بعيدًا فى الزراعة والتجارة والصناعة لم تصل إليه قط فى أيام أعظم فراعنة مصر فى كل عهود التاريخ المصرى القديم، كما امتدت فتوحها فى آسيا، وبحر إيجا، وبلاد النوبة إلى آفاق لم يكن يحلم بها أعظم الفاتحين من الفراعنة، ولا غرابة فى ذلك، فقد كانت كل الأحوال فى الواقع مهيئة "لبطليموس الثانى" ليصل إلى ما وصل إليه من قوة، وجاه، ونفوذ عند توليه عرش ملك مصر.
فقد ترك له والده "بطليموس الأول" إمبراطورية ثابتة الأركان عظيمة السلطان فى داخل البلاد وخارجها، وتدل الظواهر على أنه تأثَّرَ نهجَ والده، وسار على خطته شوطًا بعيدًا فى سبيل التقدم المادى والعلمى، مما جعل عصرَه مضربَ الأمثال من حيث النعمة والرفعة والسيطرة العالمية التى كان يتمتع بها بين الممالك الهيلانستيكية المجاورة له، والمحيطة به فى تلك الفترة من تاريخ العالم المتمدين الذى وضع أسسه "الإسكندر الأكبر".
والآن قد يتساءل المرء: لماذا أفلح البطالمة الأُول فى السيطرة على مصر والسير بها قدمًا فى داخل البلاد، ومد فتوحهم وسلطانهم ونفوذهم فى الخارج ؟، والجواب على ذلك لا شك يرجع إلى سببين رئيسين يأخذ الواحد منهما بزمام الآخر:
السبب الأول: هو أن البطالمة عندما استقر لهم الملك، وتمكنوا من أرض الكنانة، اتضح لهم أنهم فى الواقع لا يملكون شعبًا واحدًا، بل شعبين مختلفين لا تربط الواحد منهما بالآخر روابط وثيقة من حيث السلالة والدين والثقافة، وهذان الشعبان هما: الشعب الهيلانى المستعمر، والشعب المصرى المغلوب على أمره. ومنذ البداية كان كل من هذين الشعبين ينظر للآخر بنظرته الخاصة، فالشعب الهيلانى كان ينظر إلى الشعب المصرى نظرة الحاكم للمحكوم، أو بعبارة أخرى نظرة الشعب المستعمر للشعب المقهور، الذى يريد أن يستنفذ كل ما لديه من مجهود ومال لإثراء نفسه، والعيش عالة على حسابه فى بحبوحة ورخاء، ومن جهة أخرى، كان الشعب المصرى الذى فقد استقلاله حديثًا ينظر لأولئك المستعمرين نظرة ملؤها الحقد والكراهية والبغضاء، وبخاصة عندما نعلم أن الشعب المصرى منذ أقدم عهوده كان محافظًا على عاداته وطباعه وأخلاقه إلى أبعد حدود المحافظة، وقد ظل كذلك حتى دخول الإسلام فى وطنه.
وقد ظهرت براعة البطالمة، وحسن سياستهم وتدبيرهم للأمور فى التوفيق — ولو ظاهرًا — بين جماعة الهيلانيين المستعمرين وبين المصريين، على الرغم فيما بينهم من خلافات بينة، والواقع أن "بطليموس الثاني" ومن قبله والده "بطليموس الأول"، منذ بداية حكمه وجد أن توحيد الهيلانستيكيين والمصريين من كل الوجوه الحيوية كان ضربًا من المحال، فقد كان لكل من الطرفين تقاليده وعاداته وأخلاقه، ومن ثَم أخذ يعالج الأمور بالنسبة لهذا الموقف الحرج بصبر وأناة وحكمة بالغة.