تولى الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى الوقت الحالى اهتماما كبيرًا بقضية الوعى الحقيقى فى شتى المجالات، لتحصين الشباب حول ما يحدث حولنا، ومن ضمن تلك القضايا الوعى بالدين والفكر، ومن بين النماذج التى يجب استعادة نظريتها وتسليط الضوء عليها، ما نادى به الشيخ مصطفى عبد الرازق.
الشيخ مصطفى عبد الرازق "1885 – 1947"، هو شيخ الجامع الأزهر الشريف تولى منصبه فى 27 ديسمبر 1945، وهو أول أزهرى يتولى مشيخة الجامع الأزهر، ويوصف بأنه مجدد للفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث، وحمل راية التنوير والإصلاح الدينى، كما أنه تولى قبل ذلك وزارة الأوقاف 8 مرات.
ولد الشيخ فى قرية أبو جرج بمحافظة المنيا، وله مواقف ثابتة وصاحب فكر تنويرى غير متعصب على الإطلاق، كان يعلم الدين بهدف إسعاد البشر وليس للتعقيد والتنافر، يمتلك شجاعة يفتقدها اليوم الكثير من العلماء، فكان يطرح آراءه لإرضاء ربه ثم نفسه.
انتقد الإمام مصطفى عبد الرازق المستشرقين ودافع عن حضارته ومنجزها الفكرى والفلسفى، حينما قالوا: إن الحضارة الإسلامية فقيرة أخذت عمارتها من الأمم السابقة كما أخذت فلسفتها من اليونان لتبنى على وجهة النظر، هذه نظرية تقول إن العرب لا يفكرون، وإنهم ليسوا أصحاب حضارة ليتم تبرير التوجه الاستعمارى بحجة أنه يرفع من شأن البلاد التى يحتلها المحتلون.
فقال الشيخ مصطفى عبد الرازق ردًا على ذلك: إن الفلسفة الإسلامية ليست تلك التى نجدها عند ابن سينا والفارابى، ولكنها تكمن فى منجز العرب المسلمين فى علم الكلام ومصادر فلسفة التشريع الإسلامى، وبذلك أسس ما عرف بعد ذلك بالفلسفة الإسلامية التى يدرسها العالم حتى الآن تحت هذا التعريف.
أما عن علاقة الدين والفلسفة فهى قضية شائكة كما يرى الكثيرون، لكنها أبدًا لم تكن مستعصية على شيخ مثل مصطفى عبد الرازق، الذى يمتلك شجاعة ليس لها حدود، حيث قال فى هذا الشأن إن الدين والفلسفة يبتغيان سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر ومصدرها العقل؛ لذلك فهما متفقان فى الغاية مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن نخلط بينهما ولا أن نفسر الدين بالفلسفة، وإنما يبغى أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر.
كما كان هناك الكثير من العادات الاجتماعية الخاطئة التى تحمل الصبغة الدينية، ولكن الدين منها بريء، فعلى سبيل المثال جرت العادة فى زمن سابق على تقبيل أيادى العلماء كمظهر لاحترامهم.
وتدخل الشيخ العلامة مصطفى عبد الرازق قائلا: "إن الذين يمدون أيديهم الطويلة إلى الأفواه لينشروا جراثيم المرض يبذرون معها بذور الذلة فى الأنفس الطيبة"، موضحًا أن الدين ينمى علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وإخوانه من أفراد الإنسانية لذلك فهو وثيق الصلة بالحياة يواكب تطورها ولا ينغلق على نفسه ليظل دائمًا محافظًا على المجتمع وواصلاً للعباد بإلههم الواحد.
وعن العادة المستمرة حتى وقتنا الحاضر، وهى البدع والتخاريف بزيارة الأولياء والاعتقاد بكرامتهم، قال: إن الإسلام لا يقر واسطة بين العبد وربه، كما حارب من يستهينون بالشعائر المقدسة فى رمضان ويظنون أنهم بإطعامهم بضعة مساكين فقد حازوا الشرف كله.
وهنا تحدث الشيخ عن الناس المساكين، ولكنه وجه حديثًا للعلماء ليلوم عليهم أنهم تمسكوا بالمظهر وتركوا الجوهر فيستنكر أن يفتى الشيوخ بجواز لبس القبعة من عدمه بينما هم يختلفون فى تحديد كيفية رؤية هلال رمضان!.
كان الإمام مصطفى عبد الرازق يقدر الفن والفنانين ويحترمهم، ولعل علاقته لكوكب الشرق أم كلثوم تؤكد ذلك فكان يقول إن الفن يفيد الإنسان فى البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض فى الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها، وإن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن، وإن المسلمين الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كـ الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام زال التحريم"، وكان يرى أن الفن يزرع السمو فى نفوس البشر.
وتميز الشيخ مصطفى عبد الرازق بوطنيته، ففى الوقت الذى يوجد هناك العديد من المتشددين أصحاب الفكر المنغلق ينتقدون الاحتفال بأعياد القومية مطالبين الاقتصار على الأعياد الدينية فقط، فيقر الشيخ حق الأمم فى أن يكون لها أعياد قومية تنمى الشعور الوطنى لأن حب الوطن من الإيمان.
كما كان الإمام يؤمن بمطالب المرأة بالحرية والعمل، فقال: إنه يتوجب علينا أن نأخذ بالتدرج فى هذا الشأن، لأن المرأة حديثة عهد بالتعليم والخروج إلى الحياة العامة كما يرجو أن تعمل المرأة فى الأمور الخيرية التى يتغافل عنها الرجل لتتكامل وظيفة المرأة مع الرجل وتتحقق الفائدة للمجتمع.
كما هاجم الشيخ الجليل حلقات الذكر التي يقيمها رجال الطرق الصوفية، ويستخدمون فيها الدفوف لأنها تدخل في باب البدع وتراقص الرجال فيها، حيث قال: "أعوذ بالله أن تكون من دين الفطرة تلك الهزات المضطربة وذلك الهدير الذى تفيض به الهناجر"، كذلك كان يستنكر حلقات الزار التي تقيمها النساء بدقات وطبول وغناء، إذ أنها تقلق راحة الجيران، وتستند إلى خرافات تسيطر على عقولهن وأهام تمت إلى الواقع بأية صلة، كما ذكر كتاب "قراءة في فكر الشيخ مصطفى عبد الرازق" تأليف محمد عبد الرحيم الزينى.
والشيخ مصطفى عبد الرزاق أعطى مثال واضح فى عدم العنصرية وتقبل الأخر، لدرجة أنه كتب مقدمه كتاب "موسى بن ميمون .. حياته ومصنفاته" للدكتور إسرائيل ولفنسون أستاذ اللغات السامية بدار العلوم، ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق فى موسى بن ميمون، لليهود معظم الفضل فى تعريف المسيحيين بالفلسفة الإسلامية فى القرون الوسطى، وفى ذلك يقول جيوم تيوفيل تنمام الراحل عام 1819م فى كتابه "المختصر فى تاريخ الفلسفة": "أهم من حمل مذاهب العرب الفلسفية إلى المسيحيين هم اليهود نقلوها من بلاد الأندلس حيث كانت الهمم منصرفة بقوة إلى مدرسة العلوم، على أن اليهود أنفسهم ساهموا بقسط ظاهر فى عالم العلم ونشأ فيهم غير واحد من ذوى العقول الفلسفية، منهم الحبر موسى بن ميمون، الذى ولد بقرطبة وتخرج بدورس ابن طفيل وابن رشد، ودرس بنفسه كتب أرسطو ومن أجل ذلط كان طنينًا لدى المتعصبين من أهل ملته وقد تعقبوه بحقدهم حتى أدركه الموت عام 1205".
وأوضح الشيخ مصطفى عبد الرازق، أنه كان اليهود فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر سفراء بين عرب الأندلس وبين الغربيين بما ترجموا من كتب كثيرة عربية إلى لغتهم العبرية التى كان الغربيون أعرف بها، ونقلت نفس هذه الكتب إلى اللغة اللاتينية فى تراجم أكثرها مشوه جدًا".