شغلت مصر المؤرخين فى كل العصور، وقد أفرد لها الباحثون عبر التاريخ الصفحات وتعجبوا من أرضها وأحداثها، وتاريخها وأيامها، ومن ذلك ول ديورانت صاحب الكتاب الشهير المسمى "قصة الحضارة".
يقول كتاب قصة الحضارة:
هذا مرفأ أمين أوفى على الغاية في الأمان، ففي خارج حاجز المياه ترى الأمواج الصاخبة يعلو بعضها فوق بعض، أما في داخله فالبحر مرآة من اللجين، هناك، على جزيرة فاروس الصغيرة، في عهد من عهود مصر الموغلة في القدم، شاد سستراتس من الرخام الأبيض منارته العظيمة ورفعها خمسمائة قدم لتكون هادية لجميع الملاحين الضاربين في مياه البحر الأبيض المتوسط، ولتكون إحدى عجائب العالم السبع، ولقد عفت آثار هذه المنارة بفعل الأيام والمياه الغاضبة، ولكن منارة جديدة قد حلت الآن محلها تهدي السفن التجارية بين الصخور إلى أرصفة ميناء الإسكندرية، حيث أنشأ الإسكندر ذلك الغلام السياسى العجيب مدينته العظيمة التي اختلطت فيها الأجناس، والتى ورثت فيما بعد ثقافة مصر وفلسطين واليونان.
وفي مرفأ الإسكندرية استقبل قيصر وهو غاضب مكتئب رأس بمبى مفصولاً عن جسده، وإذا أطل المسافر من نافذة القطار وهو يخترق المدينة لمحت عيناه في بعض أجزائها أزقة وطرقات غير مرصوفة، وأمواجاً من الحرارة ترقص في الهواء، وعمالاً عرايا إلى أوساطهم يكدحون في مختلف الأعمال، ونساء ذوات مآزر سود يحملن الأثقال، وشيوخاً عليهم جلابيب بيض فاخرة وعمائم تكسوهم المهابة والوقار، وتقع العين من بعيد على ميادين فسيحة وقصور فخمة لا تقل جمالاً عما شاده فيها البطالمة حين كانت الإسكندرية ملتقى العالم كله، ثم لا يلبث الإنسان أن يرى نفسه فجاءة في الريف ويرى المدينة من ورائه تتراجع إلى أفق دال النهر الخصيبة، وهي ذلك المثلث الخضر الذي يبدو في المصورات كجريد النخلة السامقة محمولاً على جذع نهر النيل الرفيع، وما من شك في أن هذه الدال كانت في يوم من الأيام خليجاً في البحر، طمره النهر الواسع طمراً بطيئاً لا تدركه العين بما ألقاه فيه من الغرين الذي حمله معه آلاف الأميال .
وفي هذا الركن الطيني الصغير الذي يحيط به مصبّا النهر العظيم يخرج ستة ملايين من الفلاحين قطنا يصدرون منه إلى خارج بلادهم ما قيمته مائة ألف ريال في كل عام.
وفي ذلك الصقع من أصقاع العالم يجري أعظم نهر من أنهار الأرض وأوسعها ذكراً، تسطع الشمس على مياهه البرّاقة الهادئة وتكتنفه من جانبيه أشجار النخل الرفيعة السامقة والحشائش والحقول الناضرة.
وليس في وسع المسافر أن يرى الصحراء الغربية من مجرى النهر العظيم أو الوديان الجافة التي كانت من قبل روافد له.
ولا تستطيع في هذه المرحلة أن تدرك ضيق أرض مصر الشديد، واعتمادها التام على أرض النيل، وما يحيط بها على الجانبين من رمال سافية تناصبها العداء.
ويمر القطار الآن وسط السهل الرسوبي المغطى بعضه بالماء، والذي تخترقه قنوات الري في كل مكان، وينتشر فيه الفلاحون يجدّون ويكدحون وليس عليهم إلا القليل من الثياب.
والنهر يفيض في كل عام ويبدأ فيضانه وقت الانقلاب الصيفي ويدوم نحو مائة يوم، وماء الفيضان هو الذي أخصب الصحراء، وأوجد مصر " هبة النيل " كما سماها هيرودوت.
ومن اليسير على الإنسان أن يدرك لِمَ وجدتْ الحضارة في هذا الوادي موطناً من أقدم مواطنها، ذلك أننا لا نجد في أي بلاد أخرى في العالم نهراً مثل نهر النيل سخياً بمائه، يعلو بقدر، ويسهل التحكم فيه، وليس في وسع بلاد أخرى أن تضارع مصر في هذا إلا أرض الجزيرة، ولقد ظل زرَّاع مصر آلاف السنين يرقبون فيض النيل بقلوب واجفة، ولا يزال المنادون إلى يومنا هذا في أيام الفيضان يعلنون أنباءه في كل صباح في شوارع القاهرة، وهكذا ينحدر الماضي إلى المستقبل انحدار هذا النهر الهادئ الدائم الجريان ماراً في طريقه بالحاضر مراً خفيفاً، إن تقسيم الأيام إلى ماض وحاضر ومستقبل عمل من صنع المؤرخين، أما الزمن فلا يعرف هذا التقسيم.
لكن لكل هبة ثمنها، ومهما يكن تقدير الفلاح لهذا الفيض العظيم فقد أدرك أنه إن لم يسيطر عليه فإنه لا يروي الحقول فحسب بل إنه يرويها ويخربها، ومن أجل هذا احتفر من عهود ما قبل التاريخ تلك القنوات التي تخترق أرض مصر طولاً وعرضاً وتتقاطع فيها تقاطع خيوط الشباك، واحتبس فيها المياه الزائدة حتى إذا ما انخفضت مياه النهر رفعها إلى الأرض في دلاء معلقة في قوائم طويلة وأنشد وهو يرفعها الأغاني التي استمع إليها النيل من خمسة آلاف من السنين.