نواصل سلسلة "حياة المصريين" مع موسوعة "قصة الحضارة" لـ ول ديورانت، ونتوقف مع بداية الحضارة المصرية القديمة المسجلة وشخصياتها الحقيقية التى غيرت العالم كله.
قبل أن يحل عام 4000 ق. م كان هؤلاء الأقوام الذين يقيمون على ضفاف النيل قد أنشئوا لهم حكومة من نوع ما، فقد انقسم الأهلون المقيمون على شاطئ النهر أقساما ينتسب سكان كل قسم منها إلى أصل واحد، وكان لهم شعار واحد، ويخضعون لرئيس واحد، ويعبدون إلهاً واحد بمراسم وطقوس واحدة، وظلت هذه الوحدات الإقليمية قائمة طوال تاريخ مصر القديم، وظل لحكامها نوع من السلطان يختلف قوة وضعفاً واستقلالاً باختلاف قوة الملك الأعظم وضعفه.
وإذ كان كل نظام مطرد النمو تجنح أجزاءه لأن يعتمد بعضها على بعض فإن هذه الأقسام أخذت تنظم نفسها مدفوعة إلى هذا التنظيم بحاجات التجارة النامية وتكاليف الحرب المتزايدة حتى تكونت منها مملكتان واحدة فى الجنوب وأخرى فى الشمال.
ولعل هذا التقسيم كان صورة أخرى من النزاع القائم بين الإفريقيين أهل الجنوب والمهاجرين الآسيويين أهل الشمال، وقد سوى هذا النزاع الذى زاد من أثر الاختلافات الجغرافية والعنصرية تسوية مؤقتة حين ضم مينا "مينيس"- وهو شخصية لا يزال يكتنفها بعض الغموض- القطرين تحت سلطانه الموحد، وأعلن فى البلاد قانوناً عاماً أوحى إليه به الإله توت، أقام أولى الأسر المالكة التاريخية، وشاد عاصمة جديدة لملكه فى منف "منفيس" و "علم الناس" كما يقول مؤرخ يونانى قديم استخدام النضد والأسرة... وأدخل فى البلاد وسائل النعيم والحياة المترفة.
ولم تكن أعظم شخصية حقيقية عرفها التاريخ شخصية ملك، بل كانت شخصية فنان وعالم، وتلك هى شخصية إمحوتب الطبيب والمهندس، وكبير مستشارى الملك زوسر ( حوالى 3150 ق. م) وكان له على الطب المصرى من الفضل ما جعل الأجيال التالية تعبده وتتخذه إلهاً للعلم ومنشئ علومها وفنونها. ويلوح فى الوقت نفسه أنه هو الذى أوجد طائفة المهندسين التى أمدت الأسرة التالية بأعظم البناءين فى التاريخ.
وتقول الرواية المصرية أن أول بيت من الحجر قد أقيم بإشرافه، وأنه هو الذى وضع تصميم أقدم بناء مصرى قائم إلى هذه الأيام وهو هرم سقارة المدرج، وذلك الهرم بناء مدرج من الحجر ظل عدة قرون الطراز المتبع فى تشييد المقابر. ويلوح كذلك أنه هو الذى وضع تصميم هيكل زوسر الجنازى وأعمدته الجميلة الشبيهة بزهرة الأزورد "اللوطس" وجدرانه المكسوة المقامة من حجر الجير، وفى هذه الآثار القديمة القائمة فى سقارة، والتى تكاد تكون بداية الفن المصرى فى العهود التاريخية، نجد الأعمدة الأسطوانية المنقوشة التى لا تقل جمالاً عما شاده اليونان منها فيما بعد، كما نجد فيها نقوشاً بارزة تفيض واقعية وحيوية، وخزفاً أخضر، وفخاراً ملونا مطليا بطبقة زجاجية- يضارع ما أنتجته إيطاليا فى العصور الوسطى. ونجد هناك أيضا تمثالاً قويا من الحجر لزوسر نفسه عدا عليه الدهر فطمس بعض معالمه التفصيلية، ولكنه يكشف عن وجه ذى نظرات حادة ثاقبة وعقل مفكر، ولسنا نعلم حقيقة الأحوال التى جعلت الأسرة الرابعة أهم الأسر الحاكمة فى تاريخ مصر قبل الأسرة الثامنة عشرة، فقد تكون الثروة المعدنية العظيمة التى استخرجت من أرض مصر فى عهد آخر ملك من ملوك الأسرة الثالثة، وقد تكون ما أحرزه التجار المصريون من تفوق فى تجارة البحر الأبيض المتوسط، وقد تكون قسوة خوفو أول ملوك هذا البيت الجديد. وقد ترك لنا هيرودوت ما قاله له الكهنة المصريون عن منشئ أول هرم من أهرام الجيزة فقال: "وهم يقولون لى الآن أن العدالة ظلت توزع بالقسطاس، وأن الرخاء عم جميع أنحاء مصر إلى أيام حكم رحميسنتس؛ ثم حكم من بعده كيوبس فارتكب كل أنواع الخبائث؛ ذلك أنه أغلق جميع الهياكل ... وسخر المصريين لخدمته وحده ... فعين طائفة منهم لقطع الأحجار من المحاجر فى جبال العرب ونقلها إلى النيل، وأمر طائفة أخرى باستقبال الحجارة بعد أن تنقل فى النهر على سفن ... وكان يعمل منهم مائة ألف فى كل نوبة، وكل نوبة تعمل ثلاثة أشهر، وكل هؤلاء يكدحون عشر سنين فى إنشاء الطريق الذى كانت تنقل عليه الحجارة، وهو عمل أرى أنه لا يقل مشقة عن تشييد الهرم نفسه.