نواصل سلسلة "حياة المصريين" مع قصة الحضارة لـ ول ديورانت، ونتوقف اليوم مع حضارة البدارى التي تعد أقدم حضارة معروفة على ممارسة الزراعة بشكل احترافى.
يقول ول ديورانت فى "قصة الحضارة":
تتدرج مخلفات العصر الحجرى القديم تدرجا غير ملحوظ إلى مخلفات العصر الحجرى الحديث على أعماق تدل على أنها تنتمى إلى العهد المحصور ما بين 000ر10، و 000ر4 سنة قبل الميلاد.
وترقى صناعة الأدوات الحجرية شيئاً فشيئاً، وتزداد تهذيباً، وتصل إلى درجة من الحدة والصقل ودقة الصنع لا تضارعها فيها آية ثقافة أخرى وصل إلينا علمها من ثقافات العصر الحجرى الحديث، وقبيل أواخر هذا العهد تظهر صناعة المعادن فى صور مزهريات ومثاقب ودبابيس من النحاس وحلى من الفضة والذهب.
ثم يتدرج ذلك العصر إلى العصور التاريخية وتظهر الزراعة فى أثناء هذا التدرج، وكان أول ما كشف من آثار عصر الانتقال فى عام 1901م حين عثر فى بلدة البدارى الصغيرة ، على جثث بين أدوات تنتمى إلى عهد يرجع إلى ما قبل المسيح بنحو أربعين قرناً، ووجدت فى أمعاء هذه الجثث، التى أبقى عليها جفاف الرمال وحرارتها ستة آلاف عام، قشور من حب الشعير غير المهضوم، ولما كان الشعير لا ينبت بريا فى مصر فقد استدل من وجودها على أن البداريين كانوا يعرفون زراعة الحبوب، وقد بدأ سكان وادى النيل من ذلك العهد السحيق أعمال الرى وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهل.
وتوحى إلينا هذه البقايا وبقايا أخرى غيرها بشيء من العلم عن حياة المصريين قبل الأسر الأولى التى عاشت فى الأزمنة التاريخية، لقد كانت ثقافة ذلك العهد ثقافة وسطاً بين الصيد والزراعة، بدأت منذ قليل باستبدال الأدوات المعدنية بالحجرية. وكان الناس فى أيامها يصنعون القوارب، ويطحنون الحب، وينسجون الكتان والبسط، ويتحلون بالحلي، ويتعطرون بالعطور، لهم حلاَّقون وحيوانات مستأنسة، وكانوا يحبون التصوير وبخاصة تصوير ما يصيدون من الحيوان، وكانوا يرسمون على خزفهم الساذج صور النساء الحزانى وصوراً أخرى تمثل الحيوانات والآدميين، وأشكالاً هندسية، وينحتون آلات غاية فى الدقة والأناقة يشهد بها سكين جبل الأراك. وكانت لهم كتابة مصورة وأختام أسطوانية شبيهة بأختام السومريين.