يرصد بسماء النصف الشمالى من الكرة الأرضية، وطيلة شهر سبتمبر الحالي، كوكب الزهرة، ليزين الأفق الجنوبى الغربى بعد غروب الشمس والانتقال نحو بداية الليل، ويمكن رؤيته بالعين المجردة كنقطة ضوئية بيضاء شديدة السطوع.
ويعد كوكب الزهرة من أكثر كواكب المجموعة الشمسي، التى ذكرت فى الأساطير القديمة.
وبحسب كتاب "الأسطورة والتراث" للدكتور سيد القمنى، فى مدينة الوركاء السومرية نشأت عبادة كوكب الزهرة ونمت، إذ أطلق عليها اللسان السومرى "إينانا" الذى يعنى "سيدة السماء"، ففى اللسان السومرى "إن" تعنى سيدة، و"آن" تعنى السماء، وبدخول الساميين إلى الرافديين وتأسيس الدولة الأكادية تحول اسمها من "إينانا" إلى "عشتار".
ومما لا شك فيه أن عبادة "الربة الأم" من أقدم العبادات؛ لأن عملية التوالد العجيبة — فى نظر الإنسان القديم — كانت من خصائص المرأة وحدها. ولما كان التناسل من الأسرار الغريبة؛ فقد شخص هذه الإلهة فى البداية بتربة الأرض؛ نظرًا لأن إخصاب التربة ليس سوى نوع من الميلاد المتجدد للمحصول، ولتفسير دورة الحياة النباتية ما بين الخصب والجدب حسب التنوع الفصلي، فقد خطت يد الإنسان أول ملحمة فى التاريخ عن إلهة الخصب، هى الملحمة السومرية "هبوط إينانا إلى العالم السفلي" التى أعاد البابليون صياغتها فى ملحمة "هبوط عشتار إلى العالم الأسفل".
مع بدء "الآشوريين" على صفحة التاريخ، وتكون الدولة الإمبراطورية الآشورية، لم تَعُد الزهرة ربة اللذة والحب الشهوانى فقط، وإنما أصبحت أيضًا ربة حرب هلوك، إذا ما أخذنا بالحسبان طبيعة الشعب الآشورى الدموى وهو شعب محارب بفطرته، لم يشهد العالم القديم مثيلًا له فى البشاعة والقسوة.
وقد وجد الآشوريون لطبعهم واعتقادهم الجديد سندًا فى طبيعة الزهرة نفسها، فهى تظهر فى اليوم مرتين، صباحًا مع الشروق ومساءً مع الغروب، ومن هنا "اعتبروها إلهة الحب واللذة حين تكون إلهة المساء، ولكنها إلهة الحرب والقتل حين تكون إلهة الصباح"، حتى لقبوها بلقب "سيدة الحرب" فأصبحت مع بداية العهد الآشورى سيدة الحرب إلى جوار كونها سيدة السماء وربة اللذة.
ومع الفتوحات البابلية والآشورية لبلاد شرقى المتوسط، رحلت الزهرة مع الرافدين تفرض عبادتها على القلوب. ففى كنعان حطت رحالها باسم "عنات" — باللسان الكنعانى — أو "إناث" بمعنى الأنوثة وما ينطوى عليه. وفى فينيقيا شمالًا ظلت باسمها الآشورى "إستار" ومن هناك عبرت البحر مع التجارة الفينيقية إلى اليونان، حيث أصبحت هناك "أثينا" أو "أفروديت"، بل إنها وصلت روما لتعبد هناك تحت الاسم "فينوس" وقد كان الفضل فى انتشارها بالقارة الأوروبية إنما يعود فى المقام الأول إلى أهل الساحل اللبنانى الفينيقيين، الذين تمكنوا من السيطرة على البحر، كما كانوا شعبًا تجاريًّا من الطراز الأول، حتى إن تمكنهم البحرى والتجارى لا يزال يُعَدُّ أعجوبة ومثلًا تاريخيًّا نادرًا، ولم يقتصر توسعها على الغرب فقط، وإنما اتجهت أيضًا نحو الشرق، حيث عيلام (إيران القديمة) لتعرف هناك باسم «سيدة عيلام» التى تسكن سوسة "عاصمة عيلام" ولم يسلم من فتنتها أى من شعوب المنطقة، حتى من ينعتهم المؤرخون بالموحدين، أقصد الشعب العبرى أو اليهودي، قد وقعوا فى فتنة الزهرة فعبدوها ومارسوا طقوسها الرافدية نفسها.
ومن الرافدين إلى بلاد العرب، انتقلت المعارف الفلكية وعلم التنجيم، حتى إننا نجد لدى العرب تقسيمات للبروج والأجرام والكواكب، لم تزل أسماؤها العربية معمولًا بها حتى اليوم، ومع هذه المعارف الفلكية انتقلت أيضًا معرفة الأجرام والكواكب السبعة "الشمس، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل"، وبينما اعتبروا الشمس والقمر النيرين الكبيرين، فقد عرفوا أن الكواكب الأخرى ليست كالشمس والقمر، وإنما هى كواكب سيارة؛ لذلك أطلقوا على الكواكب الخمسة اسم "الخُنَّس الكُنَّس"، والاسم "خنس" يعود لكونهم لاحظوها تسير فى البروج والمنازل الفلكية سير النيرين الكبيرين، لكنها ترجع، وترجع هى "تخنس"، أما "كُنَّس" فتعود لكونها تستتر كما تستتر الظباء فى كناسها بالجبال، وتستر الظباء هو "كنس الظباء" وهى تعابير تعكس طبيعة البيئة العربية وتتسق معها، ويذهب الباحث "محمود الحوت" إلى احتمال أن يكون انتقال هذه العلوم إلى جزيرة العرب قد جاء على يد الصابئة، ومن المعروف أن صائبة الجزيرة كانوا تلامذة للكلدانيين من أهل الرافدين، وقد انتهى بعض الباحثين مؤخرًا إلى أن مذهب صابئة الجزيرة كان من مذهب أهل الرافدين الكلدانيين القدماء؛ مما يرجح هذا الاحتمال.
بالعودة إلى النصوص القديمة فى بلاد الشام، حيث انتقلت إلى هناك عبادة ربة الزهرة من الرافدين، نجد الكنعانيين قد عبدوا إلى جوار الإله الرافدى الجبار "إيل" زوجة أيضًا، واعتبروها الأم الكبرى والمخصبة الكونية، وأطلقوا عليها لقب التأنيث من "إيل" وهو "إيلات"، أما اسمها فكان "عشيرة" ولقبوها ﺑ "سيدة البحر"، ولم يزل لقبها كزوجة للإله "إيل" وكسيدة للبحر علمًا على الخليج المعروف باسمها فى البحر الأحمر إلى اليوم. ولا يخفى أن "عشيرة" من "عشتار"، ولقبها "سيدة البحر" من أسماء وألقاب إلهة كوكب الزهرة، ولما كانوا قد أسموها "إيلات" من المذكر "إيل"، فإن ذلك يدعونا إلى القول بأن "إيلات" لم تكن سوى الزهرة، مع ملاحظة أن اللفظ "إيلات" هو "اللات" نفسه.
كذلك جاء فى النصوص الأوجاريتية النص التالي: "ربت أثرت يم – ألت» وبالترجمة يكون: "أثرت = عشيرة"، "ربت = ربة" "يم = البحر" "ألت = إيلات أو اللات"، ومجمله "عشيرة ربة البحر، إيلات" وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.