نواصل معا سلسلة "حياة المصريين" من خلال اطلاعنا على موسوعة قصة الحضارة لـ ول ديورانت، الذى يمنح مساحة كبرى لحضارة مصر القديمة، واليوم نتوقف مع الملكة حتشبسوت.
يقول ول ديورانت:
غزا الهكسوس، وهم بدو من آسيا، مصر متقطعة الأوصال، فأحرقوا مدنها وهدموا هياكلها وبددوا ما تجمع من ثروتها، وقضوا على كثير من معالم فنونها، وأخضعوا وادى النيل مدى قرنين لحكم "ملوك الرعاة"، لقد كانت المدنيات القديمة جزائر صغرى فى بحار من الهمجية، أو محلات رخية يحيط بها الجياع والحساد من الصيادين والرعاة ذوى النزعة الحربية، وكانت حصونها عرضة للتصدع والانهيار من حين إلى حين، بهذه الطريقة أغار الكاشيون على دولة بابل، وهاجم الغاليون بلاد اليونان والرومان، واجتاح الهون إيطاليا، وهاجم المغول بيجنج، لكن الفاتحين لم يلبثوا هم أيضا أن سمنوا وأترفوا وفقدوا سلطانهم، وجمع المصريون شملهم وشنوا حرباً عوانا يبغون بها تحرير بلادهم، فطردوا الهكسوس، وأسسوا الأسرة الثامنة عشرة التى بلغت البلاد فى أيامها درجة من القوة والمجد لم تبلغها من قبل.
ولعل هذا الفتح قد جدد شباب مصر بما أدخله فيها من دم جديد، ولكنه كان إيذاناً بابتداء كفاح طويل مرير بين مصر وغرب آسية دام ألف عام، ذلك أن تحتمس الأول لم يعزز قوى الدولة الجديدة فحسب ولكنه غزا سوريا أيضاً بحجة أن مصر يجب أن تسيطر على غرب آسية لكى تمنع الاعتداء على أراضيها فيما بعد، وأخضع كل البلاد الواقعة بين ساحل البحر وقرقميش فى الداخل، ووضع فيها حاميات من عنده، وفرض عليها الجزية، ثم عاد إلى طيبة مثقلاً بالغنائم ومكللاً بالمجد الذى يكلل على الدوام هامة من يقتل بنى الإنسان.
وفى آخر العام الثلاثين من حكمه رفع ابنته حتشبسوت إلى العرش لتكون شريكة له فى الملك، وحكم من بعده زوجها وأخوها لأبيها باسم تحتمس الثانى، وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه تحتمس الثالث ابن تحتمس الأول من إحدى سراريه، ولكن حتشبسوت نحَّتْ هذا الشاب الذى علا نجمه فيما بعد واستأثرت دونه بالملك، وأثبتت أنها لا تختلف عن الملوك فى شىء إلا فى أنها أنثى، على أنها لم تعترف حتى بهذا الفرق، ذلك أن التقاليد المقدسة كانت تطلب من كل مصرى أن يكون ابن الإله العظيم آمون، ومن أجل هذا أعدت حتشبسوت العدة لأن تكون ذكراً وأن تكون مقدسة، فاخترعت لها سيرة نصت على أن آمون نزل على أحْمَسى أم حتشبسوت فى فيض من العطر والنور، فأحسنت هذه استقبالاً، ولما خرج من عندها أعلن أن أحمسى ستلد ابنة تشع على الأرض كل ما يتصف به الإله من قوة وبسالة. وأرادت الملكة العظيمة بعد إذ أن تُرضى أهواء شعبها ولعلها أرادت أيضا أن تشبع رغبة كامنة فى صدرها، فعملت على أن ترسم على الآثار فى صورة محارب ملتح ومع أن النقوش الباقية من عهدها تتحدث عنها بضمير المؤنث، فإنها تسميها "ابن الشمس" و "سيد القطرين"، وكانت حين تظهر أمام شعبها تلبس ملابس الرجال، وتلتحى لحية مستعارة.
ولعلها كان من حقها أن تقرر بنفسها أن تكون رجلاً أم امرأة، وذلك لأنها أضحت من خير الحكام الذين جلسوا على عرش مصر- وهم كثيرون - ومن أعظمهم نجاحاً، فقد وطدت دعائم الأمن والنظام فى داخل البلاد من غير أن تسرف فى الاستبداد، وحافظت على السلم فى خارج مصر، من غير خسارة وأرسلت بعثة عظيمة إلى بونت "ويرجح أن بونت هذه هى شاطئ إفريقية الشرقى"، وافتتحت سوقا جديدة لتجارة مصر، وجاءت بكثير من الطيبات لشعبها. وعملت على تجميل الكرنك بأن أقامت فيها مسلتين كبيرتين جميلتين، وشيدت فى الدير البحرى الهيكل الفخم الذى اختطه أبوها، وأصلحت بعض ما خربه ملوك الهكسوس من الهياكل القديمة، وقالت فى أحد نقوشها تفخر بأعمالها: "لقد أصلحت ما كان من قبل مخرباً؛ وأكملت ما لم يكن قد تم تشييده حين كان الآسيويون فى وسط الأرض الشمالية يهدمون فيها ما كان قائماً قبلهم"، ثم أنشأت لنفسها آخر الأمر قبراً سرياً مزخرفاً بجوار الجبال التى تطغى عليها الرمال على الضفة الغربية للنيل فى المكان الذى سمى فيما بعد "وادى مقابر الملوك". وحذا خلفاؤها فى ذلك حذوها، حتى كان عدد القبور المنحوتة فى التلال قرابة الستين قبراً ملكياً، وحتى أخذت مدينة الموتى تنافس فى عدد سكانها طيبة مدينة الأحياء، وكانت "الحافة الغربية" فى المدن المصرية القديمة موطن الموتى من الطبقة العليا؛ وكانوا إذا قالوا أن فلاناً "ذهب غرباً" قصدوا بقولهم هذا أنه مات.