تخطف قصائد إبراهيم داوود القلوب الحائرة التى تبحث عن الحقيقة فلا تجدها على السطح، بل تسكن جواهر الأشياء، تلك الحقيقة التى يبحث عنها داوود فى نصوصه تمثل الغياب النفسى عن الواقع للدخول فى اختراعات إنسانية بسيطة شفيفة، تكسر انتهازية اللغة، وتحطم أورامها المنتفخة وزخرفتها التى تمنع حركة الوصول إلى الداخل. تجلى ذلك فى ديوان إبراهيم داود ( كن شجاعا هذه المرة/ ميريت 2021) حيث يأتى العنوان فى شكله التحريضى المباشر إلى مخاطبة الذات، لأنها هى صاحبة الفعل الكونى فى الشجاعة، كما يفتح العنوان جراحات لهزائم سابقة ممتدة، أخفقت الذات فى الوصول إلى تحقيق طموحاتها على المستوى الإنساني، بل يمنحنا العنوان صورة متخيلة لاستلاب الحنين من الماضى للانتصار على الواقع، فالشجاعة وحدها ستمنحك الإحساس بالطمأنينة والسكون والراحة والخلاص من هموم وأحزان ثقيلة على النفس، وتكشف الشجاعة عن قدرة الإنسان للانتصار على نفسه، بأن يكون شجاعة فى مواجهة الحياة.
يمثل الشاعر إبراهيم داود أحد أركان الشعر المصرى فى جيل شعراء الثمانينيات، فقد أفلت من الوقوع فى حلبة الصراع حول قصيدة النثر لدى جيل السبعينيات، بل ظل إبراهيم داود مهموما بالكتابة الشعرية الحاضنة لأحلام الذات والآخر وطموحات الفقراء، فاهتم بالكتابة العابرة إلى جوانيات الوجود الشعري، لأنه يفر من الألفاظ المزركشة ذات المعانى الرخيصة إلى بناء قصيدة زاهدة ترتكز على لغة متقشفة، وهى لغة العارفين بالأحوال والعباد . مرتكزا على اصطياد المعانى الشعرية الحزينة التى تكون صورة صادقة للحياة دون زيف أو تضليل للجوهر الحقيقى للشعر.
قَدَّمَ الشاعر إبراهيم داوود للحياة الأدبية الكثير من الأعمال الشعرية المهمة بدءا من ديوانه تفاصيل1989 ـــ مطر خفيف فى الخارج ـــ الشتاء القادم ـــ لا أحد هنا ـــ انفجارات اضافيةـــ حالة مشى ـــ كن شجاعا هذه المرة) يغلب على جل هذه العناوين روح الحقيقة البسيطة التى تتزين ببساطتها وتفاصيلها المتنوعة، وينتقل بها الشاعر من أرضية المباشرة إلى المجاز عبر سياق شعرى هادئ، يكشف عن رفض الشاعر للكتابة المفتعلة المتكلفة . بل تقتل افتعالاتها مع أول جملة يكتبها الشاعر فيقول:
" أنتَ لم تتغير
فقط .. تتقدم فى العمر
وأنت تتفادى الهزائم
أخذت الطريق من أوله
واسترحت كثيرا فى التكايا والحانات
أيام التكايا والحانات
أيام الظلام الغزيرة
أيام كان الغناء طريقا أمنا
أصدقاؤك لم يتغيروا
فقط ..تقدموا فى العمر،
وركنوا إلى الحكايات الشجية
الحكايات التى يذكرونها بأسى
فى الأيام العصيبة
التى تحتاج فيها إلى أصدقائك
الطريق لم يتغير !!
يقيم الشاعر إبراهيم داوود فى نصوصه حيوات كثيرة وكأنه صاحبها، يصنعها على عينه، فتأتى قصائده محملة بالحيرة والشك والطمأنينة والسكون، فتبكى اللغة كثيرا داخل النص، ويبكى أبطالها، هو عالم كبير من الشعر والحياة، لا ينسف بقدر ما يبني، ولا يقف بقدر ما يمشى، هو حالة مشى عظيمة، لا تقف ولا تستقر. تسكنه اللغة الذاتية التى تعتمد على سرد غنائى حزين وكأنه يخاطب نفسه، ففى القصيدة السابقة يحاول الشاعر استنطاق الجوانى والعرفانى من خلال ضمير المخاطب (أنتَ)، ثم تأتى الجملة العادية لم تتغير، "فقط تتقدم فى العمر، وأنت تتفادى الهزائم" . ينسف داوود فعل التغيير المفتعل فى القصيدة، ليرسخ فعل التقدم فى الحياة، فالحياة تتقدم بالإنسان دون أن تتغير ملامحه الجوانية دون أن تتغير مشاعره الطيبة التى تواجه قسوة الحياة بابتسامة بسيطة مشحونة بالبراءة والحضور .يهرب الشاعر من الهزائم كما يفر من الانتصارات الطارئة. تنطق قصيدة إبراهيم داود كما ينطق الشارع المسكون بالحنين إلى التكايا والحانات والأصدقاء، فيستمد من هؤلاء الحنين إلى البدايات البسيطة وتفاصيلها المحفورة فى الذاكرة . فيقول فى قصيدة شجاعة:
" توجد حواجز بداخلك
وبنادق مصوبة من مكان ما
ولا يوجد زيت فى البيت!
الكواكب القريبة اقتربت من الأرض
واحتشدت الأمراض على أول الشارع
أنت فى غرفتك
تشتاق إلى بلادك فى النهار
وتدعو لها بالليل"
يقف الشاعر وحيدا فى قصيدته، فيتحدث عن العلاقة بين الحواجز الداخلية وسلطة العالم الخارجي، هذا العالم الأنانى الذى لا يفكر فى حاجيات البيوت ( لا يوجد زيت فى البيت) فيحاول داوود أن يقيم حياة موازية فى النص لآلام الفقراء و الجوعى والمرضى الذين يفترشون طرقات الشوارع. تطل صورة الوطن فى الغرفة فيشتاق لبلاده فى النهار ويدعو لها فى الليل، وهى لحظة عرفانية خاصة، فيصبح الوطن صديقا من أصدقائه المقربين، فيدعو له بالطمأنينة والعبور. يقف الشاعر إبراهيم داوود فى منتصف القصيدة، قابضا على روح البساطة والمحبة، مخلصا للشعر، فيصنع من طينتها شجاعة الخلق، وبراءة الشوارع، وأحلام البسطاء، الذين جرحتهم الحياة بهزائمها، وأنانيتها، فأصبحوا متنا مباشرا فى قصيدة إبراهيم داوود.