رأيت إبراهيم داود أول مرة بينما كان فى ثلاثيناته، كنت مع أمى وأخى الأصغر عند صالة وصول مطار القاهرة لاستقبال أبى، لطالما أحببت هذا المشوار، خروجًا من إمبابة وصولًا إلى شارع صلاح سالم، حيث المرور على مشهد سحرى لقصر البارون ومبنى بانوراما أكتوبر وتمثال رمسيس المُقلد، وإعلان مصر للطيران، ثم الاقتراب من المطار والانبهار بالطائرات تهبط أو تقلع.
وكانت من اللحظات السعيدة حين يبدأ أصدقاء أبى، المسافرين معه، فى الظهور واحدًا تلو الآخر، حتى يصل أبى وندخل معه السوق الحرة لتسوّق احتفالى، وفى ذلك اليوم لفت نظرى أن من بين الآتين مع أبى شخص يصغرهم بفارق ملحوظ، أنت تتحدث عادة عن أسماء من قبيل جمال الغيطانى وخيرى شلبى ومحمد البساطى وسعيد الكفراوى ومحمود الوردانى الذى يصغرهم ولكنه ابن نفس المساحة، لكن هذا الشاب كان شكله بينهم غريبًا بالنسبة لى، تقاطعنا بعدها على فترات وصرنا أصدقاء، وبات واحدا من قلة عرفتهم عبر نافذة أبى وأصبحوا أصدقاء مشتركين بينى وبينه وليسوا "صحاب أبويا"، ذلك الشاب سيصبح بعد سنوات ليست كثيرة الشاهد الوحيد على أول سيجارة أدخنها أمام أبى.
لا يتوقف إبراهيم داود عن التأكيد على أنه "فلاح"، يحتفى طيلة الوقت بأصوله الريفية، مع ذلك هو أكثر من عرفتهم آتين من خارج القاهرة انسجامًا معها، لا تستطيع أبدًا التقاط أنه ليس ابنها البار سوى بكلامه عن مواسم المحاصيل الزراعية وحرصه على زيارات البلد فى الأعياد وتذكر أصدقائه هناك قولًا وكتابة، حتى أنه عندما فاز بجائزة ساويرس للقصة عن كتابه الجميل "الجو العام" حاول الأصدقاء ردعه عن صرف الفلوس فى رمى أساسات بيت كان يحلم ببنائه فى قريته، حاولوا إقناعه بترك "القرشين لمستقبل العيال" دون جدوى، وأنا عندما أمشى مع إبراهيم داود فى شوارع القاهرة يخيل إلى أنه صاحبها، وأن مفتاح المدينة فى ميداليته الشخصية. هو صديق السياس والقهوجية والباعة الجائلين وأصحاب الورش والمطاعم الصغيرة والكبيرة، كما هو صديق صفوة المجتمع، ابن ليل يعامله أصحاب محال الترفيه معاملة خاصة، وابن نهار شأن من ينزلون جريًا على لقمة العيش، لطالما تساءلت عن متى ينام؟ يفضل الحركة بالمواصلات العامة ويعرف دائمًا أسهل الطرق، مع ذلك لا يهمل العناية بسيارته التى لا يستقلها إلا نادرًا، إبراهيم يفعل كل شيء ولا يحب تكبير الأمور، لا يفهم أن ينزعج الإنسان بشدة لأن الجو حر أو أن الشوارع مزدحمة، يحل أموره عادة بسخرية فادحة، وأنت لو عرفته جيدًا ستحاول إمساك لسانك عن الشكوى كى لا ينالك إفيه يلجم لسانك، فعندما يعزم عليك بشراب اقبله أو قل إنك لا تريد دون أن تنطلق فى التبرير بأنك مرهق أو إنك فى الشارع من "8 الصبح" مثلما قال له حسن عبد الموجود فباغته داود: "يا عم أنا هنا من التمانينات".
وربما أن تلك البساطة النادرة هى سر الجمال الكبير لقصيدته الشعرية، التى نستطيع وصفها بضمير مرتاح بأنها من الشعر الجديد القليل الناجح فى التعبير عما يشغل الناس، وقد يكون السبب فى ذلك هو طبيعة إبراهيم التى تقف فى منطقة ذهبية بين فنان كبير وبين إنسان عادي، أو أن فطرته بالغة الذكاء نبهته لميزة جانبه العادي، التقط تلك المساحة الحساسة وأدرك قيمتها وحرص أن يحافظ عليها رعبًا من فخ الإيغال فى التعمق والحذلقة، فضلًا عن إدراك أن الاتساق مع ذاته الفريدة أغلى ما يملك فى الحياة والكتابة.
عندما بدأنا العمل فى مجلة "إبداع" العريقة قال: "نفسى نعمل مجلة راقية بس يقراها الناس مش فوكو"، وإبراهيم شاعر ممتع فى كل ما يكتب، أصدر، فضلًا عن دواوينه، مجموعة من الكتب السردية لا تبتعد فيها لغته عن لغة قصيدته، كذلك فى مقالاته الصحفية، يقدر دائمًا على وضعك فى حالة شعر بغض النظر عن تصنيف ما كتبه، شيء ما بداخله يذهب وحده إلى أشعر مساحة فى من أو ما سيكتب عنه، يذكرنى دائمًا بمقولة كاتب كبير قال: "أهم حاجة تروح للقارئ وانت منشف عرقك"، وإبراهيم دواود أحد أمهر من يفعلونها، بالأحرى هو لا يعرف طريقة أخرى، كل سنة وانت طيب يا عم إبراهيم، ولو إنى لم أقتنع بعد بحكاية الستين تلك.