تعد ملحمة جلجامش الشعرية العراقية القديمة قصيدة ملحمية من آداب بلاد الرافدين القديمة وتعد أقدم الأعمال الأدبية العظيمة وثانى أقدم النصوص الدينية المتبقية من تلك الفترة، بعد نصوص الأهرام الدينية، يبدأ التاريخ الأدبي لملحمة جلجامش بخمس قصائد سومرية عن بلجاميش (وهي الكلمة السومرية لجلجاميش)، ويعتقد أنها أول كتاب فى التاريخ.
قالت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) إن لوح جلجامش، وهو واحد من أقدم الأعمال الأدبية الباقية في التاريخ، ستعيده الولايات المتحدة إلى العراق في وقت لاحق من هذا الأسبوع، ويحتوي لوح جلجامش، المصنوع من الطين والذي لا يقدر بثمن على نقوش باللغة السومرية، وهي لغة حضارة بلاد ما بين النهرين القديمة.
واكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالألواح الطينية التى كتبت عليها الملحمة فى المتحف البريطانى، الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل فى نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي إونيني الذى يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
والملحمة عبارة عن سرد شعرى مطول، يحكى قصة بطولية لواحد من الملوك أو الأمراء، اكتسب ولاء الناس ومحبتهم، وتتضمن الملحمة سلسلة من الأعمال البطولية الخارقة، يمثل الخيال الخلاق لحمتها، بينما يمثل الواقع التاريخى، الممتزج بالأساطير سداها.
وكتب عن هذه الملحمة دراسات لا تعد ولا تحصى، واحتملت الكثير من النقد والمعالجة والتمحيص من قبل المؤرخين وعلماء الآثار أيضا، ويعتقد أن السر فى هذا الاهتمام والإعجاب يعود إلى أن هذه الملحمة مليئة بالأحداث الخيالية والمثيرة وتُمثّل تمثيلا بارعا ذلك الصراع الأزلى بين الحياة والموت.
وتحكى الملحمة قصة جلجامش ملك أورك وبطلها وحاميها، الذى كان بطلا شعبيا حتى أن المخيال الشعبى جعل أمه آلهة وأنه ثلث إله.. (وتبدأ الملحمة بتصوير لحظة طغيان تولدت عند هذا البطل، فأصبح ظالماً وقاسياً؛ حتى إنه لم يبق عذراء ليوم زواجها، بل كان هو الزوج الأول لكل عروس. حتى ضاقت به الناس وتذمروا من جوره، وابتهلوا للإلهة كى تخلصهم من جوره، لا من شخصه؛ لأنه مع ذلك كان محبوبا من شعبه، لأنه دافع عنهم وحماهم من الغزوات، فاستجابت الإله لتضرعات الناس، وخلقت لهم انكيدو ليصارع جلجامش ويقهره، لمنعه من الظلم.
وتبدأ المرحلة الحاسمة فى الملحمة بالصراع بين أنكيدوا وجلجامش الذى جرى عند المعبد أمام الناس وانتهى بالتعادل بينهما، وقد اقتنع كل منهما بعدم قدرته على هزيمة الأخر؛ مما حدا بجلجامش بأن يتخذ انكيدو صديقا ومرافقا له، وتصالحا على محاربة الشر، وفى هذا السياق تعاونا فى قتل الوحش الأسطورى الذى نصبته الآلهة حارساً لغابات الأرز، فعاقبت جلجامش بالقضاء على صديقه ومعاونه أنكيدو، وفى تقديرى أن هذا الحدث العام هو ذروة العمل الدرامى فى هذه الملحمة؛ لأنه أحدث التحول الجوهرى فى نفسية الملك، وجعله يزهد فى كل شيء، ويبدأ رحلة البحث المضنية عن الخلود.. وقد تعاطفت مع جهوده فى بلوغ هذه الغاية إحدى الآلهات، ودلته على الكائن البشرى الوحيد الذى نال الخلود بعد أن نجا هو وزوجته من الطوفان الذى عم الكون، والذى يدعى (أوتنابشتم).
وفسر الباحث "فراس السواح" معنى متميز يخالف ذلك التفسير الذى ساد زمناً طويلاً لملحمة "جلجامش"، والذى ارتكز بشكل أساسى على أنها ملحمة بحث الإنسان عن الخلود، فقد رأى أنه إذا كان النتاج الأدبى مرآة للمجتمع فإن ملحمة "جلجامش" تصور بطولة الفرد، "جلجامش" أول شخصية "تصلنا من التاريخ القديم مدونة" تعلن حضورها فى استقلال عن الجماعة، وعن آلهتها، معلناً ابتداء عصر الإنسان الذى يرث الأرض ويشق الزمن الآتى كابن بار للإله، يطمح للجلوس عن يمينه لا كعبد مسلوب، واقع فى دائرة الميلاد والموت المفرغة، و"جلجامش" الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل ساعية وراء أهدافها وغايتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنسانى المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الفرد الذى يمكن لأية شخصية فى الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقاً من الأحرار، وهو بتطوره الشخصى من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة إنما يحدد المسار الذى يحرر الأفراد ويربطهم فى آن معاً فى مسيرة الإنسانية الكبرى، نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الإله.