يمثل كتاب "محاسن التاريخ ومساوئه" نموذجا للمغامرات الفكرية الأولى لفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة نيتشه، الذى ملأ الدنيا وشغل الناس فى عمره الفكرى القصير قبل أن يفقد وعيه، فقد أشعل حرائق فكرية فى أكثر من مجال، وهو يمثل رؤيته المبكرة إلى التاريخ وأثره فى عقول الأجيال التالية، ويظهر فى الكتاب أثر كبار الكتاب والفلاسفة الألمان، الذين سبقوه فى هذا الميدان أمثال هيجل وبوركهارت وجوته.
هذا النص مساهمة فى وعى التاريخ وكشف أثاره السيئة فى الحاضر، فإن كان الكاتب يرى الأثر السلبى للتاريخ والذاكرة التاريخية، فلعله يصنع توازنا مع الرؤية التى تقس التاريخ وتذوب فى الماضى.
وقدم المترجم رشيد بوطيب ترجمة لكتاب محاسن التاريخ ومساوئه للفيلسوف فريدريك نيتشه (1844-1900) وهى إضافة جديدة تغنى وتثمر المكتبة العربية، ذلك أن سؤال التاريخ الذى طرحه نيتشه فى القرن التاسع عشر لما له من أهمية كبيرة فى تقدم الشعوب لا يزال بعيدا فى وطننا العربى، وذلك بحكم هشاشة المجتمع الذى يقدس الأموات أكثر من الأحياء ويضفى الهالة القدسية على أشخاص لا يفيدون البشرية فى أى شيء، سوى أنهم يضعفون الحياة، لذلك فإن تأملات نيتشه هى دعوة إلى إعادة اكتشاف ملكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد، الشعب، الثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضى وتحرير الحياة من هيمنة الذاكرة.
يقول نيتشه: تأمل القطيع بالقرب منك، إنه لا يعرف ما الأمس، وما اليوم، يلتهم العشب ويخلد إلى الراحة لكى يهضم ما مضغه، هكذا من الصباح حتى الليل، يوما بعد يوم وكيفما كانت لذته وألمه فلن تجده مكتئبا ولا سئما، عكس الإنسان الذى يتألم جراء أحداث الماضى، إنه يتباهى فى كثير من الأحيان بأنه أفضل من الحيوان لأنه إنسان، لكنه فى الآن نفسه ينظر إلى الحيوان وهو سعيد ويتألم من ذلك، فأى مثال أفضل من هذا لكى يعبر نيتشه عن عمق الكارثة التى أصابت إنسان هذا العصر.
إن الحيوان بتعبير نيتشه لديه القدرة على نسيان آلامه ومعاناته، هذا على غرار الإنسان الذى لم يتمكن إلى حدود اللحظة من تعلم النسيان، فهو يظل متشبثا بالماضى الذى يوجعه، يؤلمه وسواء ركض بعيدا أو مشى مسرعا إلا أن القيد يمشى معه، فقد تختفى لحظة من لحظات عمره لكنها تعود مثل شبح لتقلق راحة اللحظة القادمة. صحيح أن الإنسان يتألم لأنه يتذكر، لكنه أيضا يشعر بالغيرة من الحيوان الذى ينسى بسرعة البرق.
يقول نيتشه: "إن الحيوان لا يحسن التظاهر ولا يخفى شيئا، فهو يظهر فى كل لحظة ودائما كما هو، والسبب فى ذلك أنه لديه قدرة رهيبة على نسيان آلامه، هذا على غرار الإنسان الذى يربط حاضره بماضيه ولا يستطيع أن يتصور نفسه خارج الماضى إنه يتظاهر بالفرح أمام أصدقائه وذلك لكى يثير غيرتهم، لكنه رغم ذلك لا يستطيع أن ينسى تجاربه وآلامه.