تعد معركة بلاط الشهداء، فى سنة 114 هجرية، واحدة من أشهر المعارك فى التاريخ، وذلك لما ترتب عليها من نتائج، وقد وقعت معركة بلاط الشهداء فى فرنسا، وكانت تعرف حينها ببلاد الغال، ولم يكد يمضى على فتح الأندلس سنوات قليلة حتى نجح المسلمون فى فتح جنوبى فرنسا.
كان بطل هذه الفتوحات هو "السمح بن مالك" وفى إحدى غزواته التقى السمح بن مالك بقوات الفرنجة فى تولوشة (تولوز)، ونشبت معركة هائلة ثبت فيها المسلمون ثباتا عظيما على قلة عددهم وأبدوا شجاعة نادرة، وفى الوقت الذى تأرجح فيه النصر بين الفريقين سقط السمح بن مالك شهيدًا من فوق جواده فى (9 من ذى الحجة 102 هـ = 9 من يونيو 721م)، فاضطربت صفوف الجيش واختل نظامه وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا".
تولّى عبد الرحمن الغافقى القيادة العامة للجيش وولاية الأندلس، حتى تنظر الخلافة الأموية وترى رأيها، فقضى الغافقى بضعة أشهر فى تنظيم أحوال البلاد وإصلاح الأمور حتى تولّى "عنبسة بن سحيم الكلبي" ولاية الأندلس فى سنة 103 هـ واستكمل ما بدأه الغافقى من خطط الإصلاح وتنظيم شئون ولايته والاستعداد لمواصلة الفتح، حتى إذا تهيأ له ذلك سار بجيشه فى أواخر سنة 105 هـ فأتم فتح إقليم سبتمانيا، وواصل سيره حتى بلغ مدينة "أوتون" فى أعالى نهر الرون، وبسط سلطانه فى شرق جنوبى فرنسا، وفى أثناء عودته إلى الجنوب داهمته جموع كبيرة من الفرنج، وكان فى جمع من جيشه؛ فأصيب فى هذه المعركة قبل أن ينجده باقى جيشه، ثم لم يلبث أن تُوفِّى على إثرها فى (شعبان 107 هـ.
وبعد وفاته توقف الفتح وانشغلت الأندلس بالفتن والثورات، ولم ينجح الولاة الستة الذين تعاقبوا على الأندلس فى إعادة الهدوء والنظام إليها والسيطرة على مقاليد الأمور، حتى تولى عبد الرحمن الغافقى أمور الأندلس فى سنة 112 هـ.
جمع عبد الرحمن جنده فى "بنبلونة" شمال الأندلس، وعبر بهم فى أوائل سنة (114 هـ جبال ألبرت ودخل فرنسا واتجه إلى الجنوب إلى مدينة "آرال" الواقعة على نهر الرون، لامتناعها عن دفع الجزية وخروجها عن طاعته، ففتحها بعد معركة هائلة، ثم توجه غربا إلى دوقية أقطاينا "أكويتين"، وحقق عليها نصرا حاسما على ضفاف نهر الدوردونى ومزّق جيشها شر ممزق، واضطر الدوق "أودو" أن يتقهقر بقواته نحو الشمال تاركا عاصمته "بردال" (بوردو) ليدخلها المسلمون فاتحين، وأصبحت ولاية أكويتين فى قبضة المسلمين تماما.
ومضى الغافقى نحو نهر اللوار وتوجه إلى مدينة "تور" ثانية مدائن الدوقية، وفيها كنيسة "سان مارتان"، وكانت ذات شهرة فائقة آنذاك؛ فاقتحم المسلمون المدينة واستولوا عليها.
ولم يجد الدوق "أودو" بدا من الاستنجاد بالدولة الميروفنجية، وكانت أمورها فى يد شارتل مارتل، فلبى النداء وأسرع بنجدته، وكان من قبل لا يُعنى بتحركات المسلمين فى جنوب فرنسا، نظرا للخلاف الذى كان بينه وبين أودو دوق أقطانيا استعداد الفرنجة وجد شارل مارتل فى طلب نجدته فرصة لبسط نفوذه على أقطانيا التى كانت بيد غريمه، ووقف الفتح الإسلامى بعد أن بات يهدده، فتحرك على الفور ولم يدخر جهدا فى الاستعداد، فبعث يستقدم الجند من كل مكان.
وبعد أن أتم شارل مارتل استعداده تحرك بجيشه حتى وصل إلى مروج نهر اللوار الجنوبية، وحين أراد الغافقى أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التى تفوق جيش المسلمين فى الكثرة، فاضطر عبد الرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر شارل بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي. وفى ذلك السهل دارت المعركة بين الفريقين، ولا يُعرف على وجه الدقة موقع الميدان الذى دارت فيه أحداث المعركة، وإن رجحت بعض الروايات أنها وقعت على مقربة من طريق رومانى يصل بين بواتييه وشاتلرو فى مكان يبعد نحو عشرين كيلومترا من شمالى شرق بواتييه يسمّى بالبلاط، وهى كلمة تعنى فى الأندلس القصر أو الحصن الذى حوله حدائق، ولذا سميت المعركة فى المصادر العربية ببلاط الشهداء لكثرة ما استشهد فيها من المسلمين، وتسمّى فى المصادر الأوربية معركة "تور- بواتييه".
ونشب القتال بين الفريقين فى (أواخر شعبان 114 هـ = أكتوبر 732م)، واستمر تسعة أيام حتى أوائل شهر رمضان، دون أن يحقق أحدهما نصرا حاسما لصالحه.
وفى اليوم العاشر نشبت معركة هائلة، وأبدى كلا الفريقين منتهى الشجاعة والجلد والثبات، حتى بدأ الإعياء على الفرنجة ولاحت تباشير النصر للمسلمين، ولكن حدث أن اخترقت فرقة من فرسان العدو إلى خلف صفوف المسلمين، حيث معسكر الغنائم، فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، غير أن هذا أدى إلى خلل فى النظام، واضطراب صفوف المسلمين، واتساع فى الثغرة التى نفذ منها الفرنجة.
وحاول الغافقى أن يعيد النظام ويمسك بزمام الأمور ويرد الحماس إلى نفوس جنده، لكن الموت لم يسعفه بعد أن أصابه سهم أودى بحياته فسقط شهيدا فى الميدان، فازدادت صفوف المسلمين اضطرابا وعم الذعر فى الجيش.
وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة ظلام الليل وانسحبوا إلى سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنيمة للعدو.